المسرح الفرنسي.. أسئلة تقتحم عالم القلق
كتب
للمسرح الفرنسي خصوصية واضحة دائما تمتد من جذوره الكلاسيكية البعيدة إلى الاتجاهات الحديثة التي واكبت المدارس الفنية
بتنويعاتها المتغيرة وفي هذا الجزء من انتولوجيا المسرح الفرنسي نماذج مختلفة مختارة من الحداثة المتجددة في المسرح الفرنسي بما فيها من جرأة في التجريب وطرح الأفكار الساخنة في مدارات الحياة اليومية الكتاب يتضمن ثلاث مسرحيات: مسرحية (نهاية العالم ليس إلا لجان لوك لاغارس) ومسرحية ( طلب تعيين لميشيل فينافير) ومسرحية علاقات حرجة لكريستوف بيليه..
مسرحية جان لوك لاغارس ( نهاية العالم ليس إلا) تشكل هذه المسرحية من حيث الشكل والمضمون مفصلا هاما في سيرة حياته فقد كتبها قبيل وفاته وفيها يعلن عن موته الوشيك ويحكي عن آخر زيارة قام بها لعائلته قبل الرحيل ويطرح اللقاء مع عائلته على نحو شاعري مرمز جدا وقد نقول بتحفظ ويبدأ بتوجه مباشر إلى الجمهور وعبر (البرولوغ) فيحكي اللقاء الذي جرى في بيت العائلة - والحدث يدور ضمن حلقة الأسرة التي غاب عنها لسنوات, الأسرة تستعيد بهذه المناسبة كل نزاعاتها القديمة وتبوح بالحب الذي يحمله أفرادها الواحد للآخر.
تنتهي الزيارة في آخر النهار لكن الابن يرحل دون أن يقول شيئا صريحا عن وضعه إنه يستمع بدلا أن يبوح يشعر بعجز الآخرين وعجز العالم الخارجي برمته عن فهم واستيعاب وضعه وعجزه عن مساندة من يحب ويشعر بتفاهة المشكلات اليومية وعجز التواصل مع الآخر النص يعبر عن التأرجح بين دور الكلام وعجزه.
يقول ( لويس) البطل في بداية النص إنه قرر زيارة عائلته ليطلعها على وضعه الصحي ويودعها وفي النهاية تبدو هذه الزيارة فاشلة لاغارس ( لويس) ورغم فداحة الموقف لا يعرض الأمر في صيغة مأساوية فقد تعلم قبول الأشياء وهو ربما يقدم هنا صيغة جديدة للمأساوي في زمننا ويطرح أجمل وأقوى صورة عن وحدة وعزلة الفرد من زاوية حادة دقيقة هي : الألم?!! المسرحية عبارة عن لقاء يتم فيه استرجاع حياة بأكلمها لهذا تبدو لعبة الزمن هامة وهي اللعبة المسرحية بامتياز في كتابة لاغارس لعبة غريبة تعتمد الانتقال بالزمن من الحاضر إلى الماضي ومن الماضي إلى الحاضر وأحيانا المستقبل والمستقبل في الماضي فهناك زمن اللقاء وما قبله أي ماضي العائلة وهناك أيضا زمن الكتابة وهناك الزمن القادم وهو زمن المدن وما قبل الموت اسلوب الكتابة يقترب من السرد الشفهي لكنه يتجاوز ليصل إلى نوع من الشعرية العالية في ما بعد في العام التالي / كنت سأموت بدوري/ اليوم أكاد أبلغ الرابعة والثلاثين من عمري وسأموت في هذه السن في العام القادم بعد أشهر عدة قضيتها في الانتظار دون أن أفعل شيئا بالتلاعب والضياع أشهر عديدة قضيتها في انتظار نهايتي / كما لو أن الواحد منا لا يجرؤ على الحركة أحيانا أو بالكاد أمام خطر جسيم خفي كنت راغبا بعد احداث ضجة أو بألا أقوم بحركة عنيفة أكثر من اللازم كان لها أن تنبه العدو وتدمرني مباشرة/.
شعرية تجنح صوب التأمل وتقديم الحقيقة المكتشفة لتوها من قبل البطل بطريقة فيها اشراقة فلسفية أو شذرة ملتقطة من عالم ينضح بالحكمة?! أو الأصح نمط خاص من الحكمة التي لا يقولها من اقتربت نهايته على مرأى عينيه ويتحلى بشجاعة جميلة وهو يعلن عن موته الوشيك والحتمي يعلن بنفسه موته: ( وأن أكون المرسال الوحيد) وأن أبدو الآن مازلت قادرا على أن أقرر أن أوهم نفسي وأن أوهم الآخرين مرة أخيرة بأني مسؤول عن نفسي وأن كون حتى هذا الحد سيد نفسي.
( طلب تعيين)
المسرحية الثانية هي مسرحية ( طلب تعيين) لميشيل فيتافير حيث يفاجئنا هذا النص بجرأته في التعامل مع اللغة والكلام بشكل عام الشخصيات موجودة طوال الوقت على الخشبة تتكلم ولا نعرف من هو المخاطب وأحيانا لا نعرف أيضا عن من أو عن ماذا تتكلم إنها اللغة التي تتحول إلى أداة عنف تدمر الإنسان من المفترض أن لغة النص عامية أو هي لغة الحياة اليومية لكن كما تؤكد الدكتورة ماري الياس التي ترجمت النصوص بعناية فيها جمالية مميزة - إنها لم تنقلها إلى العربية المحكية وإنما استخدمت الفصحى في ترجمتها وما دعاها إلى هذا الحل هو الرغبة في توسيع هامش قراء النص?!!
علاقات حرجة
علاقات حرجة هي المسرحية الثالثة في الكتاب لكريستوف بيليه وتعد الترجمة العربية الأولى للكاتب ومسرحيته هذه هي المسرحية الثانية في سلسلة من ثلاث مسرحيات ثلاثية تتكلم عن التغييرات التي تعصف بالعلاقات بين الرجل والمرأة أو بين اشخاص من جنس واحد.. حيث يقول في مقدمة مسرحيته: ( إن الحدود الظاهرة للرجال والنساء باتت مهتزة, أفعالهم متشابهة, إنهم يتأرجحون بين التعددية الجنسية وبين المثلية وهناك انطباع قوي بأن الجنس الذي كان يعتبر الجنس الخشن ( القوي) صار الجنس الأضعف وأن علم النفس التقليدي الذي كان يحدد سلوكهم لم يعد قائما).
كريستوف بيليه الذي ولد في مدينة تولون عام 1963 يقوم في هذه النصوص بمراقبة دقيقة ويشخص بدقة الاضطرابات العاطفية التي تعيشها الشخصيات وهذه الاضطرابات تفتقد الاطار الايديولوجي الواضح والمتين.
أحداث المسرحية تتم في ثلاثة أيام ممتدة على أشهر وهذا ما يسمح بمتابعة تطور مصير الشخصيات تؤكد الدكتورة ماري الياس:
إن أهمية النص تكمن في الجرأة بطرح الموضوع ببساطة شديدة ومن ثم في اسلوب طرحه من خلال لغة خاصة جدا بالكاتب فإذا كنا نلاحظ في أغلب النصوص المعاصرة غياب علامات الترقيم التي يفترض أن تحدد المعنى فإن هذا النص يكثر منها على نحو يأخذ معه ايقاع الجملة التي تقولها الشخصية طابعا خاصا وموسيقيا قد يقترب من الشعر ويحول هذا الكلام القريب جدا من لغة الحياة اليومية إلى تعبير مؤسلب مسرحي بدرجة كبيرة لأن الجمل هنا مبتورة تضمر الكثير مما لا يقال.
الحس الوجودي والعدمي أحيانا بدا واضحا عبر أكثر من خطاب في المسرحيات الثلاث التي تشي بانتولوجيا المسرح الفرنسي وتختزله على نحو ذكي عبر أسئلة بارعة وشجاعة يلمسها القارئ أحيانا بطريقة غير مباشرة وأحيانا تواجهه وجها لوجه دون : الاكتراث بحالة الحيرة التي قد تخلفها لديه النصوص.
الكتاب: انتولوجيا المسرح الفرنسي الحديث
الترجمة : د. ماري الياس