المسرح العربي وتحديات العصر
--------------------------------------------------------------------------------
اذا كان اليوم قد أصبح من الضروري استقصاء واقع هذه العقبات من أجل تجاوزها ان امكن، أو تجاوز ما يتيح الواقع والامكانات تجاوزه، فإن ذلك يحتاج بالضرورة التوغل في تاريخ المسرح في القرن العشرين في وطننا العربي، وذلك للوقوف على مسببات نهضته في بعض الأزمنة ومن ثم كبوته أو تراجع دوره في العقدين الأخيرين على وجه الدقة. في البدء لا بد من الاقرار بأن المسرح العربي أخذ أشكالاً عدة في مراحل تطوره، نسخت بعض الأشكال غيرها في عملية النمو تلك، وترسخ بعضها الآخر وذلك كله في عملية تفاعل خلاق مع واقع القضايا العربية التي فرضت نفسها على العاملين في المسرح العربي، وخاصة المؤلف المسرحي، أو بفعل التلاقح مع الفكر الحداثي والاوروبي وثقافته وخاصة المسرحية منها. لقد عرف العرب المسرح الشعري، وخاصة مع أمير الشعراء أحمد شوقي الذي ألف العديد من المسرحيات الشعرية التي لقيت استحساناً وقبولاً عند الجمهور العربي وخاصة ان الذاكرة العربية كانت ذاكرة شعرية قريبة من النسيج النفسي للانسان العربي الذي تفاعل مع هذا الشكل المسرحي الذي طرح العديد من القضايا الاجتماعية خاصة في اطارها التاريخي، ومع التطورات التي لحقت ببنى المجتمع العربي وبروز مشاريع النهضة، وخاصة المشروع القومي بدأ المسرحيون العرب في توسيع فضاء المسرح، وذلك من خلال سبل ووسائل عدة مهدت أمامهم الطريق، منها انفتاحهم على ثقافة الغرب وخاصة الثقافة المسرحية الكلاسيكية لشكسبير وموليير، وذلك من خلال الترجمة التي اسهمت في اثراء المكتبة المسرحية العربية، أو من خلال العودة الى الموروث الثقافي العربي الذي تمثل في استعادة بعض الاشكال التراثية ككركوز وعيواظ أو الحكواتي أو الحكاية الشعبية، بكل ما تحتويه هذه الاشكال من ثراء أسهم في إيصال مضامين العروض وأحرز للمسرحيين تفاعلاً وثيقاً مع الجمهور، وخاصة أن المسرح استخدم تلك الاشكال في بث قضايا الشعب، وانه غلب على كثير من تلك الأعمال في معالجتها للمواضيع الأحادية في تناول الفكرة، وعدم التركيز على الجانب التقني في بناء العرض المسرحي، والذي أصبح في نهاية الألفية الثانية جزءاً مهماً من العملية الإخراجية التي توسعت مدارك مخيلتها في التعامل مع النص المسرحي وبناء فضاء العرض والارتقاء بجماليات المسرح.
في عقد الستينات كان الوقت قد حان على مستوى التطور الواقعي للمسرح العربي لظهور اشكال مسرحية أكثر تبلوراً من نواح عدة أهمها توافر عناصر المسرحة في النص المسرحي الذي أخذ يبدو أكثر تماسكاً على مستوى التطور الدرامي للنص، وعلى مستوى تطور لغة الحوار بين شخوص المسرحية أو على مستوى استخدام المونولوج الداخلي للشخصيات تأثراً بالمسرح الغربي، أو على مستوى تصاعد ايقاعي في بناء حبكة العمل، كل هذا ترافق مع الاطلاع على تجارب عالمية متعددة الاتجاهات والمشارب، وخاصة المسارح الأكثر عراقة، إن كان على المستوى التاريخي القديم والمقصود المسرح اليوناني أو من خلال الاطلاع على مسيرة المسرح الفرنسي والانجليزي والروسي، وكان لا بد لهذا الاطلاع ان يترك بصمات واضحة في تطور عملية التأليف الدرامي أو عملية الاخراج وخاصة الاطلاع على منهج ستانسلافسكي في إعداد الممثل، كل ذلك كان يجري في المسرح بالتزامن مع تسارع وتيرة الاحداث على مسارح أخرى، مسارح الحياة السياسية والاجتماعية ونضوج وعي قومي في الشارع العربي الذي كان المسرحيون أبناءه الذين يتلمسون قضاياه ويعيدون انتاجها من خلال أعمالهم المسرحية التي تباينت اشكالها وطرق معالجتها من مسرحي الى آخر، ومن بلد عربي الى بلد عربي آخر، وعلى سبيل المثال لا الحصر كان المسرح في مصر وسوريا ولبنان سباقاً الى الاشتغال على القضايا الكبرى والبحث في الأشكال المناسبة لطرحها، ففي مصر برزت أعمال المسرح القومي كأعمال طليعية في استلهام قضايا التحرر والنضال القومي ورفض أشكال الاستعمار والهيمنة، إما من خلال الأعمال التاريخية أو من خلال أعمال لها شكل مسرحي غربي في آليات التأليف والاخراج، لكنها تتبنى قضايا واشكالات الانسان العربي، وفي لبنان كانت التجربة الرحبانية آخذة في الترسخ والتوسع جماهيرياً عبر طرح مسرحي فريد امتاز به الرحابنة مزجوا فيه أشكالا فنية عدة، كالرقص الشعبي والموسيقا والغناء استطاعت أن تصل بمضامين أعمال الرحابنة الى الشعب وطرح قضاياه التي امتزج فيها الوطني بالانساني والاجتماعي بالطبقي، وأسهمت لغتها الدارجة في انتشارها وخاصة انها لغة معالجة فنياً ودرامياً لخدمة العمل المسرحي، وفي سوريا كان سعد الله ونوس بدأ يشكل تجربته في استقراء نقدي لأسباب التردي العربي وتفكيك أسباب الفوات التاريخي العربي، هذه التجربة التي تطورت لاحقاً لتدخل في فضاءات جديدة من خلال الأعمال ذات الطابع التاريخي، أو من خلال الأعمال ذات الطابع السياسي الاجتماعي والتركيز الدائم على تطوير اللغة الدرامية للنص لتتوافق مع مضامين العمل ومقولاته.
أما في عقدي السبعينات والثمانينات فقد تطورت تلك المسارح مع ظهور تجارب مسرحية مهمة في بلدان عربية مختلفة، وكانت التطورات السياسية في الوطن العربي تأخذ اتجاهات مختلفة اسهمت في إنتاج تجارب مسرحية جديدة ذات طابع تفاعلي مختلف مع الجمهور، ويمكن هنا ذكر نموذجين مهمين هما المسرح السياسي المقاوم والمونودراما، وكان المسرح السياسي نفسه متعدداً في أشكاله التي تراوحت بين الأدلجة المباشرة، وبالتالي سقوط العرض المسرحي في فخ المخاطبة المباشرة للجمهور، وبين مسرح سياسي شعبي غني بالعناصر الاجتماعية استطاع ان يترك أثراً أبعد من حدوده القطرية كأعمال الماغوط، وظهر مسرح الحكواتي في لبنان مع الحرب الأهلية والاحتلال “الاسرائيلي” كرد فعل مغاير على الأشكال والتعابير الفنية المسرحية التي تحتاج الى فضاء مسرحي تقليدي.
أما المونودراما وهي العمل المسرحي المكتوب للمثل الواحد، فأنت كرد فعل على أكثر من مستوى منها الاحتجاج على الأشكال التقليدية للمسرح ومنها شعور الفرد بالاغتراب والحاجة للتعبير عن الأذى الذي لحق بالذات الفردية، وبالتالي الحاجة الماسة لرد اعتبارها عبر تقنيات المونودراما وخاصة المونولوج الداخلي الذي يتكئ على قراءة متعددة المستويات للذات الفردية بما فيها القراءة النفسية، وهكذا أصبحت المونودراما شكلاً من أشكال الرفض الذي يتم فردياً باسم المجموع، مركزاً على الحصار الضارب حول الفرد وعزلته من أي أسلحة لمواجهة عواصف الحياة في مستوياتها المعقدة.
ومع عقد التسعينات كان العالم يأخذ بالتحول سريعاً حيث سقط الكثير من المرجعيات الفكرية التي كان المسرحيون يتكئون عليها،إذ أخذت العولمة تفرض أشكالها الطاغية على مستويات مختلفة، فعانى الوطن العربي من تخلخل اصاب بناه وتراجع في مشروعه النهضوي ودخل في مآزق تهدد وجوده من انقسامات كيانية جغرافية، كما تراجع في مستويات الدخل القومي، أو من تراجع من حراك القوى المجتمعية الحية في الوقت الذي أخذت مفاعيل ثورة التقانة والاتصالات على رغم جميع أوجهها الايجابية تفرض أنماطاً استهلاكية تتميز فيها الصورة بالصدارة دون ان يكون هناك حاجة الى عمق مضموني ذي دلالات ورموز كما المسرح، بالإضافة الى قدرة الصورة الى الوصول الى ملايين البشر في أن واحد، بينما يفتقد المسرح الى تلك الخصيصة.
في العقدين الأخيرين بلا شك أصبح لمعاهد الدراما والتمثيل والاخراج مكانة مرموقة في الوطن العربي وأخذت تتخرج أجيال جديدة من المسرحيين المجهزين بالأدوات المعرفية والتقنية اللازمة لعملهم، وعرفت بلدان عربية لم يكن للمسرح فيها من حضور كثيف وفاعل على حراكاً مسرحياً كالإمارات والكويت بالإضافة الى اقطار المغرب العربي التي شهدت بروز تيارات مسرحية جديدة. إلا أن هذا كله ومع كل ايجابياته لم يمنع من تراجع دور المسرح في الحياة العربية وفي المشهد الثقافي العربي على رغم تواجد الكفاءات العربية التي لا يكاد أي قطر عربي يخلو منها، إلا أن الحاضن الاجتماعي والفكري والاقتصادي والسياسي لم يعد موجوداً كما في السابق ولم يعد ثمة مشروع توحيدي نهضوي عربي يطلق آفاق الإبداع ويخلق تفاعلية بين أفكار المثقفين والمبدعين وبين الجمهور وخاصة في المسرح الذي يشكل ربما أهم حالة تفاعلية وأهم فضاء للحوار الفكري والجمالي بين المنتج الابداعي وبين المتلقي.
ومن هنا تبرز التحديات الكبيرة التي يواجهها المسرح العربي اليوم، ومن المؤكد أنه ليس ثمة من وصفة شافية لإعادة الدور الطليعي والعضوي للمسرح في الواقع، إلا أنه أيضاً لا يمكن الذهاب بالتشاؤم الى اقصاه، لأن نظرة موضوعية الى ما يجري من حولنا تجلعنا ندرك أن ما يستجد من أشكال فنية أو تقنية جديدة لا يلغي أشكال التعبير الأصيلة ومنها المسرح، فالطائرة لم تلغ الدراجة الهوائية، فالعقل البشري قادر على التمييز ومعرفة حاجاته والأشكال التي تلبيها، فإبهار الصورة سيأخذ في نهاية المطاف حده الواقعي، والأزمات التي يعيشها الناس بقدر ما يمكن أن تعمق عزلتهم بقدر ما يمكن ان تدفعهم للمشاركة. وهذا ما يفرض على المسرحيين أنفسهم إعادة النظر في قضايا المسرح وإشكالاته والبحث عن حلول وابتداع أساليب وطرق للوصول الى المتلقي والتفاعل معه، وهذا ما تحتاجه الكثير من التجارب لجهة الوقوف نقدياً على طبيعتها من أجل تخطي واقعها الإشكالي، وذلك من خلال قراءة موضوعية للواقع الراهن واستثمار المنافذ التي يمكن من خلالها تفعيل دور المسرح بوصفه تكثيفاً فكرياً وأخلاقياً وجمالياً في الوقت نفسه وشكلاً من أشكال المعرفة اللاتقليدية والأهم من ذلك مكاناً للقاء الإنسان بأخيه الإ