المســـرح واللــذة
1 - الثقـافـة وخطـاب اللـذة:
لم يكن الحديث عن اللذة، إلى وقت قريب، يستأثر باهتمام دارسي الأدب والفن في الثقافة العربية. بل إن أي خطاب عنها كان مستحيلا مادامت كل محاولـة من هذا القبيل لا مناص من أن تـؤدي بصاحبها نحـو ملامسة مناطـق حساسة في جسد الثقافة العربية كالدين والأخلاق والمقدس بصفة عامة. ولعل انفتاح هذه الثقافة على نظيرتها الغربية كان من بين أهم العوامل الأساسية في نشوء ما يمكن تسميته بخطاب اللذة. وقد وجد هذا الخطاب في المجال الأدبي والفني مجالا خصبا للنشأة والتكوين.
فإذا عدنا إلى الثقافة الغربية نجد أن اللذة استأثرت باهتمام الكل وشكَّلَت موضوعا للتفكير الشعبي والعلمي والفلسفي على حد سواء وتجلى هذا في «التنميقات الجدلية للرواقيين الذين تحدَّوها، والمتعيين «Hédonistes» الذين طالبوا بها،والأفلاطونيين والأرسطيين الذين يدعون وضعها في مكانها اللائق، قبل أن يقترح لها كل من بنتام Bentham وستيوارت ميل Stuart Mill حسابا. فهذه الإشكالية أبعد ما تكون عن الانتهاء مادام هربرت ماركوز Herbert Marcuse يتساءل، مسترجعا رؤية شيلر Shiller، ما إذا كان المجتمع الصناعي القائم قادرا - بعد التعارض بين اللذة والعمل الذي أكدته الصناعة الناشئة - على خلق عالم يلتقي فيه هذان المطلبان» (1-764).
وتشكل اللذة مفارقة أساسية من مفارقات الثقافة الغربية خصوصا وأن الإنسان الغربي بحكم تجريديته «Abstraction» وفعاليته «Activisme» في آن واحد، خلق هوَّةً بين جسده ومحيطه. فالتجريدية «دفعته نحو اعتبار اللذة حالة وعي، والفعالية (التي تذهب إلى حد اعتبار الله فعلا خالصا) كان طبيعيا أن تجعله يعتبر هذه اللذة - الوعي كمحفز بسيط أو مثير للفعل» (1-766). وقد ترتب عن هذه المفارقة نوع من الحرمان من اللذات من جهة، وتشكل، من جهة أخرى، نوع من الإحساس الإيجابي إزاء اللذة الجمالية «Plaisir esthétique»، أي اللذة المرتبطة أساسا بمجال الإبداع.
علاوة على هذا، ظهرت ردود فعل متطرفة تمثلت إما في «جر اللذات نحو التلذذ الكلامي البسيط (حكايات لافونتين La Fontaine)، أو على العكس من ذلك، نحو «القـذارة» التـي تحـدث عنهـا سيليـن Céline بعد هوراس Horace» (1-766).
ويبدو أن الثقافة العربية، على الرغم من حضور اللذة فيها كموضوع إبداعي منذ البدايات الأولى للشعر العربي، وعلى الرغم من بروز بعض المظاهر المتطرفة للذة الملعونة (ظاهرة الغلاميات)، إلا أن التفكير في الموضوع وإنشاء خطاب حول اللذة لم يبدأ في التشكل إلا عندما تمَّ الانفتاح على أدبيات التحليل النفسي وشرع بعض الدراسين في ترجمتها واستثمار أدواتها في قراءة الإبداع العربي (أفكر هنا في ما قام به العقاد والنويهي ومصطفى ناصف وجورج طرابيشي وغيرهم). وسيتم تركيز التفكير في موضوع اللذة في علاقته بالمجال الأدبي خصوصا بعد اطلاع الثقافة العربية على مظاهر الحداثة الأدبية الغربية وعلى أعمال العديد من رموزها الذين أَرْسَوْا قواعد خطاب اللذة كرولان بارث Roland Barthes الذي يعد كتابه «لذة النص» دستورا للغواية الأدبية.
2 - اللذة الجماليـــة
يعد الفن باعتباره ممارسة إبداعية جمالية ملاذا أساسيا للذة استطاعت أن تحقق عبره مصالحة بينها وبين نقيضها الأساس الذي هو الأخلاق. ولعل هذا ما حدث فعلا في الثقافة الغربية بالخصوص حيث أكد هربرت ماركوز أن التناقض الذي فرضته طبيعة المجتمع الصناعي بين العمل واللذة جعل الهوة أكثر اتساعا بين اللذة والأخلاق. وقد تمَّ تجسير هذه الهوة عبر تجميل «Esthétisation» الحياة اليومية الذي «يذكرنا بأنه بواسطة اللذة الجمالية، في الغالب، حاولت اللذة والأخلاق في الغرب أن يحققا التصالح» (1-764).
والحديث عن اللذة الجمالية المرتبطة بالفن يجر بالضرورة نحو الحديث عن الفن كممارسة تخيلية. في هذا الإطار، غالبا ما تمَّ الربط خصوصا في الكتابات التحلينفسية - بين الفن والحلم أو الفن واللعب. ففيما يخص العلاقة بين الفن والحلم ترى سارة كوفمان Sarah Koffman أن العمل الفني يشبه الحلم من حيث تعبيره عن استيهامات المبدع، أي عن السيناريوهات المتخيلة التي تجسد رغبة لاشعورية، ومن حيث تشغيله آليات الحلم كالتعويض والتحويل والتصوير وغيره. إلا أن الفرق بين الفن والحلم يكمن في كون «لغة الفن ينبغي أن تكون مفهومة وتواصلية لأن الفن نتاج ثقافي ذو وظيفة اجتماعية» (2-157).
والمقصود بهذا القول أن الفن بقدر ما يشغل رغبات الفنان بقدر ما تكون له صلة برغبات متلقي هذا الفن وبالمجتمع عموما، من ثم «فالتمثيل والأثر Affect متلازمان» (2-157). مما يحتم بالضرورة تحكم سيرورات الوعي وما قبل الوعي عند الفنان في سيرورة اللاوعي، وضبطها له على عكس الحلم الذي ينفلت من هذا التحكم والضبط. ويعتمد الفن في هذا الضبط على وسيلة أساسية لتحقيق الأثر «Effet d’affect» تسميها كوفمان بالتركيبة الرمزية «Combinatoire symbolique» والمقصود بها أن شروط حصول اللذة عند المتفرج هي الاستيهامات المقنعة للفنان وعمله الشكلي، فهو «يستطيع الإغراء بواسطة الجمال الذي يخلقه، وذلك بتحويل الاهتمام، ورفع المنع والتمتع من جديد بالاستيهامات المكبوتة» (2-170). هذا الأثر الذي يستشعره المتلقي إزاء العمل الفني هو الذي عبَّرَ عنه فرويد بأثر المتعة «Effet de plaisir» وشرحه في دراسة له عن النكتة وعلاقتها باللاشعور، حيث رأى أن هذا الأثر ينشأ نتيجة عاملين: التقنية الخاصة (تعويض، تحويل..) والنزعة الموجودة في الكلمة (عدوانية أو إيروسية). وكلاهما له علاقة بسيرورات الحلم، إلا أن الفرق يكمن في كون هذه السيرورات مستعملة في النكتة بطريقة قصدية.
وفيما يخص علاقة الفن باللعب ترى الدراسات التحلينفسية أن هناك علاقة تشابه بين اللعب الفني ولعب الأطفال رغم أن الأول يتميز عن الثاني بكونه موجها أساسا نحو طرف آخر هو المتلقي من أجل إبلاغه إحساسات وانطباعات معينة تكون مصدر اللذة. فالفنان هو، في نهاية الأمر، طفل «يحاول بواسطة لعب العمليات النفسية اللاواعية - لعب التأثيرات في تحولها والتمثيلات في التركيبة - تقليد ما يقوم به الطفل بواسطة ألعابه قبل أن يتدخل العقل والحكم لفرض ضغوطهما. فالإنسان المحترم الذي هو الفنان ليس في العمق سوى طفـل يمنـح النـاس الآخـريـن بـدورهـم فـرحـة القـدرة علـى الحصـول علـى جنـة الطفـولة» (2-168/169). وجعل المتلقي يحصل على جنته لا يعني أن الفن خال من الجدية لأن «الحديث عن اللعب ليس جعل الفن نشاطا خاليا من الجدية. فاللعب ليس مقابلا للجاد وإنما للواقع» (2-169). ولعل هذا التقابل بين الفن والواقع هو الذي يؤكد أن الفن باعتباره ممارسة تخيلية شبيهة باللعب قادر على تحقيق لذة المبدع والمتلقي في آن واحد. وتحقيق اللذة - في منظور التحليل النفسي - له علاقة بالرغبات المكبوتة، وبالتالي بالإطار الذي يحتضن هذه الرغبات وهو اللاشعور. ولعل هذا ما جعل فرويد يؤكد على ضرورة التفكير في مسألة اللذة من زاوية ميتاسيكولوجية، وآية ذلك أننا، مثلا، «إذا استشعرنا نوعا من الرعب بمشاهدتنا لأوديب ملكا، فلأن إحدى رغباتنا الطفولية المكبوتة تعرض على الخشبة؛ الرعب لأننا الآن كبار وينبغي لنا أن نحتفظ بهذه الرغبة المكبوتة، واللذة، في المقابل، لأن الرغبة مقنعة ولأننا سعداء بالانتقال، بفضل الفن، نحو حالة الطفولة التي تعتبر دائما مثالية» (2-161). وهذه اللذة التي مصدرها الفن لا تتحقق دفعة واحدة ولا تكون بنفس القوة في كل الحالات، وإنما تخضع لمراحل يميز فيها فرويد بين مرحلتين أساسيتين تسمى الأولى باللذة الأولية والثانية باللذة النهائية، ويشرح هذه الثنائية في علاقتها بمفهوم الجمال.
فإذا كان مفهوم الجميل عنده يتحدد بكونه «كل ما يثير جنسيا»، فإن جمال الجسد يزود بلذة أولية تتمثل في الإثارة، هذه الأخيرة تعمل على رفع المنع والسماح بتحقيق لذة نهائية تتمثل، جنسيا، في التقاء الأعضاء الجنسية. والفن بدوره - باعتباره ممارسة جمالية - تتحقق فيه هذه الثنائية اللذية. فالجمال في الفن «يلعب دور مكافأة الإغراء Prime de séduction، ويسمح بإفراغ الميول المكبوتة. فاللذة الصغرى أثارت هنا لذة أكبر كُبِتَ مصدرها» (2-163/164).
إذا كان حديث فرويد عن الثنائية اللذية في الفن يؤكد أن اللذة الجمالية لا تحصل عند متلقي هذا الفن إلا عبر مراحل، فإن حديثه عن مبدأ «التحميس الجمالي Exaltation esthétique» المأخوذ عن فشنر Fechner، حاول أن يثبت من خلاله أن تأثير حصيلة جماع لذات مختلفة والتقائها في لحظة واحدة يكون أقوى من تأثيرات كل لذة منفردة ومأخوذة بشكل منعزل. ولعل هذا ما جعل من اللذة الجمالية «لذة ممزوجة» - كما ترى سارة كوفمان - يصعب تحديد كل جزء من مختلف العوامل التي تتركب منها وتساهم في تحقيق التأثير العام.
إلا أن هذا الارتباط بين الفن واللذة انطلاقا من كون الفن شبيها بالحلم من جهة، وباللعب من جهة أخرى، لا ينبغي أن يحجب عنا بعدا أساسيا في هذا الفن المثير للذة، وهو علاقته بالواقع. وهذا يجرنا نحو إشكالية أساسية استأثرت باهتمام فرويد أولاً، واستعادها بشكل مغاير هربرت ماركوز، وهي موقع الفن كمتخيل بين ما سُمِّيَ بمبدأ اللذة «Principe de plaisir» ومبدأ الواقع «Principe de réalité» باعتبارهما المبدأين الأساسيين المتحكمين في اشتغال العقل الإنساني. فمبدأ اللذة يعمل على تفادي اللاَّلَذَّة «Déplaisir» المرتبطة بتصاعد كميات الإثارة، وعلى تحقيق اللذة المتمثلة في تقليص هذه الكميات وتحقيق الإشباع (3-332)، في حين يشكل مبدأ الواقع «زوجا مع مبدأ اللذة بحيث يغيره: فما دام ينجح في فرض نفسه كمبدأ ضابط، فإن الإشباع لا يتحقق بأقصر الطرق، وإنما يستعمل طرقا ملتوية ويؤجل نتيجته تبعا للشروط المفروضة من العالم الخارجي» (3-336).
في هذا الإطار يرى هربرت ماركوز أن للغرائز علاقة وطيدة بالمحيط السوسيو-تاريخي تجعل مبدأ اللذة يتحول إلى مبدأ الواقع. وهذا التحول لا يتحقق على مستوى شكل اللذة وزمنها وحسب، وإنما يتحقق أيضا على مستوى محتوى هذه اللذة. فمبدأ الواقع يعمل على إخضاع وتحويل القوة المدمرة للإشباع الغريزي ولا توافقه مع المعايير الاجتماعية. بعبارة واحدة، يخضع مبدأ الواقع اللذة لعملية تحويل المحتوى «Transubstanciation» (4-25). وبفضل هذا التحويل والإخضاع يصبح الكائن الإنساني «أنا منظمة Moi organisé» تناضل من أجل ما هو نافع لمحيطها الحيوي، وتصبح اللذة مكيفة مع شروط العمل والحركة التي تفرضها طبيعة المجتمع والحضارة. وبفضل مبدأ الواقع ينمي الكائن الإنساني وظيفة العقل ويكتسب قدرات مختلفة كالاهتمام والتذكر والحكم ويصبح بالتالي ذاتا واعية.
إلا أن عملية التحول هاته من مبدأ اللذة إلى مبدأ الواقع، وإن كانت تمس مختلف جوانب البناء العقلي للكائن، إلا أن نشاطا فكريا واحدا يبقى خارج دائرة هذا التحول وهذا التنظيم الجديد، ألا وهو المتخيل، لأنه يبقى محميا من التغيير الذي تفرضه الحضارة، ومرتبطا بمبدأ اللذة. ولعل هذا ما يؤكده فرويد الذي يرى «أن المتخيل يبقى القيمة العقلية الوحيدة التي تظل متحررة إلى حد كبير من مبدأ الواقع حتى داخل مجال الوعي المتطور نفسه» (4 - 128). والمتخيل ببقائه بعيدا عن إكراهات مبدأ الواقع، يعيش، مثله مثل اللعب والحلم، الحرية عوض القمع والرغبة عوض العقل. لذا، يرى ماركوز «أن للخيال، باعتباره سيرورة عقلية مستقلة أساسية، قيمة حقيقية خاصة تطابق تجربته الخاصة، تجربة تجاوز الواقع الإنساني المتناقض. فالخيال يتصور مصالحة الفرد مع الكل، الرغبة مع تحقيقها، والسعادة مع العقل. ففي الوقت الذي يرمى بهذا الانسجام في إطار اليوتوبيا من لدن مبدأ الواقع المسيطر، يؤكد الخيال على كونه يجب أن يكون واقعيا، وعلى أن وراء الخيال توجد المعرفة» (4 - 130). فالخيال، من هذا المنظور، وبحكم «وظيفته المعرفية» التي أكَّدَ عليها يونغ Jung أكثر من فرويد، يمكنه أن يتحول إلى واقع لأنه يحمل حقائقه الخاصة التي يحققها عن طريق خلق عالم قابل للإدراك والفهم وصبِّه في قالب شكليٍّ معين هو الشكل الجمالي. لذا فالترابط بين المعرفي والجمالي في الفن مسألة أساسية لأن «تحليل الوظيفة المعرفية للخيال يقود نحو الجمالي» (4-131).
علاوة على هذا، أي على كون الفن يبقى، باعتباره متخيلا، في مأمن من التحولات الناشئة عن انتقال مبدأ اللذة - إلى مبدأ الواقع، فإن بإمكانه أن يجسد أحد ردود الفعل الناشئة عن هذا التحول وتتمثل في ما يسمى بعودة المكبوت «Retour du refoulé». فمبدأ الواقع تتحقق عودته وتجدده تبعا لتطور الكائن الإنساني، لذا فإن انتصاره على مبدأ اللذة ومحاولة إقصائه له لا تكون تامة ولا شاملة أبدا. فالحضارة - كما يرى فرويد - لا تضع حدا ونهاية للحالة الطبيعية، لأن ما تعمل على قمعه وكبته - وهو المطالبة باللذة - يستمر وجوده في الحضارة نفسها خصوصا وأن اللاشعور يحتفظ باللذة الساقطة «Plaisir déchu». وهذا الاستمرار لا يتحقق داخل اللاشعور وحسب، وإنما تكون له آثار حتى على الواقع الذي كبت اللذة. من ثم، فالفن يمكن أن يجسد «عودة المكبوت» في أبرز أشكالها، ليس على المستوى الفردي، وإنما على المستوى التاريخي التكويني. «فالخيال الفني يعطي شكلا لـ «الذكرى اللاواعية» للحرية التي أخفقت والوعد الذي أُخْلِفَ» (4-131).
فتضمن الفن باعتباره ممارسة تخيلية شبيهة باللعب والحلم، لهذه المحتويات النفسية وصياغته لها في قالب شكلي، يجعله يجمع بين المعرفي والجمالي باعتبارهما أساس اللذة الجمالية.
3 - اللـذة المسرحيـة:
يعد المسرح باعتباره ممارسة فنية من أكثر المجالات التعبيرية إثارة لمسالة اللذة. فمنذ الأثر التطهيري الأرسطي الذي ربط اللذة بالاندماج، مرورا بعلاقة التوافق والتكامل التي تحدث عنها بريشت بين المعرفة والمتعة، وصولا إلى الأثر السحري للمسرح عند أرطو، ظلَّتْ مسألة اللذة تسكن عمق الإبداع والنظرية المسرحية على حد سواء معبرة عن نفسها بطرق مباشرة أو غير مباشرة.
وإذا كان المسرح مثله مثل سائر الفنون الأخرى يبني متخيَّلَه الذي يعبر عن استيهامات المبدع المسرحي بواسطة التركيبة الرمزية المكونة من تقنيات مختلفة، فإنه، مع ذلك، يتميز عنها في بعدي الإنتاج والتلقي على حد سواء مما يجعل اللذة تخضع لرؤية خاصة مرتبطة بخصوصية المسرح كفن يتميز بالخاصية الأدبية والفرجوية من جهة، وبميزة التلقي المباشر، من جهة أخرى. فالخاصية الأولى تجعل الاستيهامات مضاعفة ومتراكبة منها ما له علاقة بالمؤلف ومنها ما له علاقة بالمخرج. أما الميزة الثانية فتجعل تحقيق ما سمته سارة كوفمان بتلازم التمثيل والتأثير سيرورة آنية مباشرة مادام المتفرج يحضر فرجة تصنعها أجساد ولغات متعددة ومختلفة تتفاعل أمامه.
ولعل هذه الخصوصية هي التي تجعلنا نميز في الحديث عن اللذة المسرحية بين لذتين: لذة النص المسرحي، ولذة العرض المسرحي.
3 - 1 - لذة النـص المسـرحـي
عندما خصَّصَت الباحثة الفرنسية آن أوبرسفيلد فصلا خاصا باللذة من كتابها «L’école du spectateur» تحت عنوان «لذة المتفرج»، لم يكن الهاجس الذي يستأثر باهتمامها - انطلاقا من المنظور السيميوطيقي للذة - سوى اللذة في علاقتها بالعرض المسرحي وخصوصا في بعد التلقي أكثر من بعد الإنتاج. في هذا الإطار تحدثت عن لذات مختلفة لدى المتفرج كلذة الفهم، والتذكر، والمشاهدة، والتأمل، محاولة الربط بين علامات العرض وبين ما تسميه بالتلقي الإيجابي عند المتفرج. داخل هذه الرؤية، لم تهتم أوبرسفيلد بلذة النص المسرحي إلا من حيث علاقتها بالعرض حيث أشارت إليها بشكل عابر يرهنها بالبعد الشعري للنص. تقول: «من الممكن دائما عرض نص يمنح المتفرج لذة الإحساس بنفسه في موقع الكاتب. إغراء جد قوي عندما يتعلق الأمر بنص غنائي - شعري حضور الكاتب فيه جد قوي» (5-337). هل من الضروري أن يكون النص المسرحي شعريا كي يثير اللذة؟ نحن لا نعتقد ذلك، لأن لذة النص المسرحي تكمن أولا، في منظورنا، في تحقيق ما سمَّته فيزواناتان Viswanathan بـ «فرجة الفكر Spectacle de l’esprit» التي تتشكل عبر القراءة. وهذه المسألة لها علاقة بما أكده رولان بارث نفسه عندما بيَّنَ منافاة اللذة لأسر القارىء وتقييد خياله، قائلا: «أن أكون مع من أحب وأفكر في ذات الوقت في شيء آخر: هكذا أتوصَّلُ إلى أحسن الأفكار، وأخترع بصورة أفضل ما هو ضروري لعملي. كذلك شأن النص: يبعث في لذة أحسن إذا ما تمكَّنَ من أن يجعلني أنصت إليه بكيفية غير مباشرة، إذا ما دفعني، وأنا أقرؤه، إلى أن أرفع رأسي عاليا وأن اسمع شيئا آخر. فلستُ بالضرورة مأسورا بنص اللذة» (6-31).
فقراءة النص المسرحي تجعل القارىء يسرح مع خيالاته، ويبني عوالمه، وينشيء في ذهنه خشبة تجري فيها أحداث وتتحرك فوقها شخصيات. وإذا أردنا أن نتكلم بلغة التحليل النفسي نقول إن استيهامات المؤلف تعمل على إثارة استيهامات القارىء وتحرير المكبوت منها، خصوصا وأن الكاتب المسرحي يعمل - لإضفاء البعد الجمالي على عمله - على تقنيع استيهاماته وإخضاعها لعمل شكلي تفرضه الكتابة باعتبارها «علم متع اللغة» (6-15)، كما يقول بارث.
والحديث عن هذا العمل الشكلي في الكتابة المسرحية يجعلنا نضع اليد على مراكز اللذة في النص المسرحي. ويبدو لنا أن كثيرا من الخصائص التي تحدث عنها بارث في «لذة النص» تنطبق إلى حد كبير على النص المسرحي.
يقول بارث: «ليس في وسع نص اللذة أن يكون شيئا آخر سوى نص قصير (على غرار ما يقال: أهذا كل ما هنالك، هذا قصير شيئا ما)» (6-25). من المعروف عن النص المسرحي أنه لا يقول كل شيء لأنه نص مثقوب «texte troué»، كما تقول أوبرسفيلد، وهذه الثقوب قد يملأها القارىء للنص، وقد يملأها المخرج أثناء العرض. لذلك، فهي مظهر من مظاهر القصر في النـص التـي تكـون مصـدر اللـذة. فعنـدمـا نقــرأ إشـارة مسـرحيـة Didascalie مثـل هاته: «(فضاء. معالم مشوشة. موسيقى إلكترونية. ضباب. آلهة هائمة)» (7-9)، نلاحظ أنها تتكون من تراكيب قصيرة تتراوح بين الكلمة والكلمتين، هذا بالإضافة إلى أنها تتميز بالانفتاح الدلالي الذي يجعل منها ثقوبا حقيقية في النص تنشأ عن ملئها لذة لا حدود لها.
ويتحدث بارث عن العلاقة بين جدلية الخفاء والتجلي وبين لذة النص قائلا: «أليس الموضع الأكثر إيروسية في جسد ما هو حيث ينفرج اللباس؟ ففي الانحراف (الذي هو نظام اللذة النصية) لا وجود لـ «مناطق مولدة للشبق» (وهذا على كل حال تعبير مزعج). إن ما هو شبقي، كما بيَّنَ التحليل النفسي ذلك جيدا، هو التقطع: تقطع لمعان البشرة بين قطعتين من اللباس (السروال، القميص) بين حافتين (القميص الموارب، القفاز، والكم)، هذا اللمعان بالذات هو الذي يفتن أو أيضا الإخراج المسرحي لعملية الظهور والاختفاء» (6 - 19). إن المناطق المولدة للشبق والمثيرة للذة في جسد ما «Les zones érogènes» ترتبط بجدلية الاختفاء والتجلي، وهي جدلية يلعب فيها اللباس دورا أساسيا، ويبدو لنا أن مصدر اللذة في نص ما هو نفس الجدلية التي يمكن التعبير عنها بصيغة أخرى هي جدلية الغموض والوضوح أو اللبس والشفافية. والنص المسرحي بطبيعته يقوم على هذه الجدلية، وإن اختلف التعامل معها باختلاف التيارات والنظريات المسرحية خصوصا وأنه يتشكل من طبقتين نصيتين هما الحوار والإرشادات المسرحية تفرضان الوضوح حينا والغموض حينا آخر. وهذا شكل من أشكال اللعب في الكتابة المسرحية يعيه جيدا الكتاب المتمرسون بطبيعة هذه الكتابة. لذا، عندما يقررون الدفع بلذة القارىء نحو حدودها القصوى يعملون على شَعْرَنَةِ هذا النوع من اللعب. وهذه الشعرنة ليست في تقديرنا هي المصدر الأساسي للذة ولكن من شأنها أن تحقق فائضا لذيا يدفع بالقارىء نحو النشوة الكبرى «Extase».
3 - 2 - لــذة العــرض المسـرحي
غالبا ما يتم الحديث عن المسرح باعتباره «أب الفنون» دون إدراك خطورة هذا التحديد على مستوى خصوصية هذا الفن من جهة، وعلى مستوى طبيعة العلاقة التي تربطه بمختلف الفنون التي يتضمنها من جهة أخرى. ولعل مسألة اللذة في علاقتها بالمسرح تكشف بشكل جدي خطورة هذا التحديد. فإذا افترضنا أن العرض المسرحي يجمع فنونا مختلفة كالرسم، والموسيقى، والحكي، وغيرها، فإن الحديث عن لذة مسرحية سوف يكون، في نهاية الأمر، حديثا عن لذة المشاهدة (وهو شيء نستشعره إزاء لوحة تشكيلية أو فيلم سينمائي)، ولذة الحكي (وهو شيء نجده في الحكايات والأساطير والروايات وغيرها)، ولذة الاستمتاع بالحركة الجسدية المعبرة (وهو ما نجده في أشكال الرقص المختلفة). بمعنى أن اللذة المسرحية سوف تصبح دالاًّ لا مدلول له، أو تعبيرا عن شيء غير موجود إطلاقا، لأن هذه اللذة المسرحية هي، في الحقيقة، لذات الفنون الأخرى. ويبدو أن إثارة مسألة خصوصية اللذة المسرحية أمر هام جدا استشعرت خطورته أوبرسفيلد عندما قالت: «يمكننا القيام بمراجعة اللذات الموجودة داخل العرض المسرحي والتي ليست مسرحية بالمعنى الحقيقي» (5-331). ولحل هذا الإشكال تستدرك قائلة: «لكن ربما، لهذا ليس هناك معنى لعزل هذه اللذات عن العرض المسرحي: فهي ليست خاصة به لكنه يتضمنها؛ وجمع كل هذه اللذات - التي يحتويها المسرح وحده كلها - يجسد نوعا من الخصوصية» (5-332). ونعتقد أن كلمة الجمع لا تفي بالغرض بشكل جيد، لذا نرى من الأفضل الحديث عن تفاعل اللذات في المسرح وتداخلها. وحتى نبرز مصداقية هذا التفاعل نعطي مثالا نقارن فيه بين مشاهدة جسد في رقصة معينة مستقلة وبين مشاهدة نفس الجسد يجسد هذه الرقصة في عرض مسرحي ما. فاللذة المسرحية الناشئة عن هذه الرقصة تكمن في تفاعل حركة الجسد بإيقاع الموسيقى وحركة الإنارة وعلاقة الجسد الراقص بالأجساد الأخرى وكيفية تموقعه داخل فضاء اللعب المسرحي. وهنا يلعب التلقي دورا أساسيا لأن إدراك هذه الأبعاد المختلفة في علاقتها التفاعلية هو الذي تنشأ عنه خصوصية اللذة المسرحية.
والحديث عن لذة العرض المسرحي يجر بالضرورة نحو البعد السيميوطيقي لهذه اللذة والمتمثل في علاقتها بعلامات العرض «Signes de la représentation». في هذا السياق ترى أوبرسفيلد أنه «يمكننا، عبر نسق العلامات بكامله أن نلاحق اللذة المسرحية» (5-330). لكن، ألا يسكت هذا الحديث السيميوطيقي عن بعد أساسي في اللذة سبق أن حللنا مختلف جوانبه في حديثنا عن اللذة الجمالية، وهو البعد النفسي؟. إن أوبرسفيلد لم تتغاض عن هذا الجانب - وهي التي تستحضر فرويد في كثير من دراساتها - لذلك أشارت إلى المصدر النفسي للذة المسرحية قائلة: «عندما لاحظ فرويد على طفل صغير جدا لعب البكرة، اكتشف المصدر النفسي للذة المسرحية: يوجد هنا ما ليس هنا، توجد علامة. شيء يوجد من أجل أخذ مكان موضوع رغبتي، ويمنحني إشباعا متخيلا وواقعيا في آن واحد. فالمسرح موضوع - ملك بالنسبة للتحليل النفسي الأدبـي - (5-338). فعلامات العرض - إذن - ليست مصدر لذة إلا من حيث كونها تعوض موضوع رغبة مكبوتة لدى المتفرج، وبعبارة أخرى: من حيث تشغيلها لمتخيل يرتبط بمبدأ اللذة وينفلت من مبدأ الواقع.
ولعل هذا الانفلات يتحقق أكثر عند المتفرج من خلال الإيهام الذي يوحي به الكون العلامي للعرض ومن خلال الاندماج الذي يحصل نتيجة لذلك والذي تقول عنه سارة كوفمان: «بفضل الاندماج يمكننا أن نكون البطل الذي لا نكونه في الحياة الواقعية ]...[ فالمتفرج يعرف أن مثل هذه السيرة البطولية سوف تكون مستحيلة بالنسبة إليه دون آلام وأخطار من شأنها أن تقصي اللذة.إنه يعرف أيضا أنه لا يملك إلا حياة واحدة، وأنه بمجرد مقاومته للعداء قد ينتهي. فلذته، في المسرح، مؤسسة إذن، على وهم: فباندماجه في البطل الذي يتحرك ويعاني فوق الخشبة يعرف أن هذا ليس سوى لعب لا يمكنه تهديد أمنه. بإمكانه، إذن، أن يسمح لنفسه بالاستمتاع بالتحول إلى إنسان مهم والاستسلام دون تردد للرغبات المكبوتة. إن الاندماج في أبطال متعددين يسمح له بامتلاك أكثر من حياة. لذا، فالأدب والمسرح هما تعويض عن موتنا» (2 173/174).
وللذة المسرحية خصائص تميزها بحكم أن المتفرج يعايش موضوع لذته بطريقة مباشرة من خلال إدراك حسي تشتغل فيه كل طاقاته السمعية والبصرية وحتى الشمية في بعض الحالات. ولعل أبرز هذه الخصائص كونها لذة غير أحادية، بمعنى أن المتفرج لا يعيشها وحده وإنما بمعية بقية المتفرجين. إنها تتحول من خلال علاماتها (تصفيق، ضحك، إلخ.) إلى عدوى تنتشر بسرعة: «فالمتفرج يرسل علامات لذة جد خفيفة، إلى جانب الضحك الصاخب والدموع الأكثر سرية التي تعد عدواها ضرورية للذة كل واحد، فإننا لا نذهب وحيدين إلى المسرح، وإذا كنا وحيدين نكون أقل سعادة» (5 -330).
واللذة المسرحية، باعتبار الخصوصية الإبداعية لفن المسرح، لذة مضاعفة تتحقق من خلال معايشة عالمين في لحظة واحدة: عالم حاضر وهو عالم الفرجة الآنية المعيشة كنشاط ملموس حي يشارك فيه المتفرج نفسه بقسط مهم، وعالم غائب وهو ما تشير إليه العلامات المكونة للعرض وما ترمز إليه وتحيل عليه من عوالم ومرجعيات وفضاءات فيها الواقعي وفيها المتخيل.
4 - تركيــب
لقد حاولنا من خلال هذه الدراسة حول موضوع المسرح واللذة أن نبين مدى أهمية الخلفية المعرفية التي تقدمها الدراسات النفسية والسيميوطيقية لمقاربة مثل هذا الموضوع. وقد حاولنا أن نبرز أهمية هذه الدراسات في تأسيس خطاب اللذة في علاقته بالمجال الفني عموما والمجال المسرحي على وجه الخصوص.
ونعتقد أن هذه الخلفية النظرية المتعلقة بموضوع اللذة المسرحية أساسية بالنسبة لخطابنا النقدي المسرحي باعتباره خطابا ناشئا ما يزال في إطار البحث عن الأداة الكفيلة بتفجير ما يحبل به النص المسرحي العربي من مقومات إبداعية وعلى رأسها المقومات النفسية والسيميوطيقية التي هي أساس اللذة الجمالية