المســـرح والجنــون
«.. لكن قد يحدث أحيانا أن شخصا ما يغير المسار الطبيعي لسلوكه بحيث لا يجيب أبدا عند مناداته باسمه ويبدو كما لو أنه يعيش في عالم مواز لذا نقول عنه، إما أنه مجنون، أو أنه يمثل. بعض العشائر التي يلتحم أفـرادها بواسطة شعـور دينـي لهـا تفسير ثالث: هو ما نسميه بـ ''المس''..»
Jacques Bourgaux, Possessions et simulacres aux sources de la théâtralité, Epi. S. a Editeurs, Paris, 1973, p. 9
المسرح والجنون عالمان رمزيان يلتحمان إلى حد الانصهار ويفترقان إلى حد التناقض. ولعل ما يفسر هذه العلاقة المتناقضة بين هذين العالمين الغريبين هو كون أحدهما يشكل مفارقة «Paradoxe» بالنسبة إلى الآخر. أليس المسرح، جنونا عاقلا، والجنون مسرحا غير عاقل؟! هذه المفارقة هي العتبة الأولى التي سنلج من خلالها هذا الموضوع المثير والمقرف في آن واحد. مثير من وجهة جمالية محض تستحضر كل ممتع ولاذ في المممارسة المسرحية كفضاء للجنون باعتباره طاقة تخييلية وإبداعية مهمة؛ ومقرف من وجهة أخلاقية تستحضر كل الحساسيات المرتبطة بالجنون باعتباره معادلا لكل ما هو ضد - عقلي، خارج عن المألوف، فاقد للتواصل، لا إنتاجي، مخرب وفوضوي. فهنا يحضر المنظور الاجتماعي بكل إكراهاته وآليات إقصائه الرمزية والفعلية وأشكال تهميشه المؤسسية (مراكز العلاج العقلي، المعازل، إلخ.)
في مقاربتنا هاته، سنحاول تحجيم مساحة الأخلاقي بل وتجاهلها لمعاجة العلاقة بين المسرح والجنون، من أجل الكشف عن الأبعاد الجمالية لهذه العلاقة من خلال ثنائية مسرح الجنون وجنون المسرح، دون إغفال جانب مهم ترتب على هذا البعد الجمالي وهو البعد العلمي أو الطبي في هذه العلاقة، ويتعلق الأمر باستغلال المسرح في مجال الطب العقلي.
1 - المسـرح والجنـون: المتخيل والواقعـي
1. 1 - المسـرح كفضـاء للمتخيـل
إن الحديث عن المسرح كفضاء للمتخيل يستدعي، بالضرورة، استحضار بعض التصورات عن المتخيل باعتباره «طفولة الوعي» أو «جنون العقل La folie du logis» كما يقال. هذا الوعي الطفولي وهذا الجنون كيف يتجسدان في المسرح؟ وبالتالي ما هي العناصر التي يتاسس عليها المسرح باعتباره متخيلا؟
لعل من المفيد التذكير بالبعد المزدوج لفن المسرح باعتباره أدبا وفرجة، خصوصا وأن هذا التمييز يجعل المتخيل في هذا الفن يكتسي أبعادا مضاعفة ومتراكبة ومتداخلة (تداخل متخيل المؤلف والمخرج أبرز دليل على ذلك). لكن الأهم من كل هذا هو التأكيد على أن مساحة المتخيل في المسرح يرسم حدودها وآفاقها الطابع اللعبي «Aspect ludique» لهذا الفن. من هنا، يبدو من اللازم استحضار مفهوم اللعب وخصائصه عند الحديث عن المسرح كفضاء للمتخيل. يمكن العودة، في هذا الإطار، إلى هويزنغا Huizinga الذي يحدد اللعب قائلا: «من زاوية الشكل يمكن (...) تعريف اللعب كفعل حر، خيالي، يتموقع خارج الحياة العادية، قادر على الاحتواء الكلي للاعب. فهو فعل خال من أية مصلحة مادية ومن أية نفعية، ينجز في زمن وفضاء محددين بدقة، يجري بنظام وفق قواعد معطاة وينشيء، في الحياة، علاقات بين جماعات تحاط، اختياريا، بالغريب أو تعمق غرابتها إزاء العالم الطبيعي بواسطة التقنع» (5 -214). هذا التصور الدقيق عن مفهوم اللعب بمختلف مكوناته وخصائصه يرى باتريس بافيس Patrice Pavis أنه يطابق مفهوم اللعب في المسرح، مادام هذا الأخير ينبني على كل العناصر اللعبية بما فيها الخيال، القناع، الخشبة المحدودة والمواضعات أو القواعد.
هذه العناصر، إذن، هي التي تجعل من المسرح باعتباره متخيلا، جنونا عاقلا، لأنه إلى جانب حرية اللعب وطابعه الخيالي وأقنعته، هناك إطار فضائي وزمني وقواعد درامية يخضع لها اللعب المسرحي تعقلن جنون هذا اللعب، بعضها يقترحه متخيل المؤلف والبعض الآخر يفجره متخيل المخرج وفق ما تمليه عليه طاقاته الإبداعية وإمكاناته الإخراجية.
فالمسرح، إذن، وفق هذا التصور يبقى أكثر الفنون قربا من الواقع وأشدها ارتباطا به، مادام يستغل هذا الواقع كمادة يشتغل عليها ويصنعها، لكنه يظل، مع ذلك، أكثرها بعدا عن هذا الواقع لأنه يقوم على خاصية أساسية هي التي تسميها آن أوبرسفيلد Anne Ubersfeld بـ«مفارقة المحاكاة Le paradoxe de la mimesis» (6-13). وتتمثل في كون المحاكاة هي محاكاة لواقع ما لكنها في الآن نفسه وسيلة لبناء المتخيل وبالتالي إثارة ميكانيزم النفي «Dénégation» لدى المتفرج.
1 - 2 - الجنـون حالـة واقعيـة
على الرغم من اقتران مفهوم الجنون، عموما، بكل ما هو ضد - عقلي وشاذ عن المألوف وغير طبيعي، إلا أن الشيء المؤكد هو أن الجنون ليس مفهوما مطلقا وإنما هو مفهوم نسبي مرتبط بالسياق الثقافي والاجتماعي للجماعات البشرية، من هنا لا يكون المجنون «مجنونا إلا بالنسبة لمجتمع ما» (4-15). ولعل ارتباط الجنون بالسياق السوسيو-ثقافي هو الذي جعل مفهومه يتغير وتصورات المجتمع عنه تتبدل تبعا لتحولات العصر والتاريخ. ففي القديم «L’Antiquité» اعتبر الجنون بمثابة مسٍّ «Possession» تلحقه بالفرد قوة خارجية قد تكون ذات طابع شيطاني. وبعد عصر النهضة اعتبر المسُّ كمظهر جنوني بمثابة سلب لحرية الروح وليس الجسد. خلال القرن الثامن عشر، اعتبر الجنون مرادفا للخطأ والجهل والحرمان. وبتحول المجتمع، خلال القرن التاسع عشر، إلى مجتمع صناعي يقوم على أساس مفهوم الإنتاج اعتبر الجنون شكلا للاإنتاجية «Improductivité»، وأصبح الحديث عن المجنون باعتباره مختلا «Aliéné». وخلال القرن العشرين، ونتيجة لتطور الاكتشافات العلمية المرتبطة بالجانب النفسي للإنسان خصوصا مع فرويد Freud وتطور العلوم المرتبطة بهذا المجال (الطب العقلي، التحليل النفسي، علم الاجتماع العقلي...) أصبح يتعامل مع نظام الجنون باعتباره يتكون من ثلاثة عناصر أساسية هي: المرض العقلي، المريض، ومستشفى الأمراض العقلية.
فالجنون، إذن، كظاهرة سوسيوثقافية ذات أبعاد تاريخية ليس شيئا متجانسا لأنه اتخذ أشكالا متعددة منها الهذيان، المسّ، الاستيلاب أو المرض العقلي.
وتميز الدراسات النفسية الحديثة بين نوعين أساسيين من «الاضطرابات النفسية، وهي العُصابات «Névroses» والذهانات «Psychoses». في الذهانات التي تصيب الشخصية كلها نجد اضطرابات في العقل، في المزاج وفي الحس النقدي. وفي العصابات فإن جانبا واحدا من الشخصية هو الذي يصاب (يتم استشعار أنماط من الرعب أو الوسواس في بعض الحالات). والعُصَابي يبقى صاحيا وقادرا على الإحساس» (4-9).
كما أن «العصاب يعبر عن صراع نفساني يشكل اتفاقا بين الرغبة والدفاع، وله جذوره في التاريخ الطفولي للذات. والذهان هو أولا، قطيعة بين «الأنا» و«الواقع» تترك الأنا تحت رحمة الغرائز، ثم هو إعادة بناء هذياني لواقع مطابق لهذه الغرائز، إنه نمط دفاعي خاص ضد واقع معاش من طرف الذات باعتباره جد قاس» (4-11).
إن الذوات، سواء كانت ذهانية أو عصابية، تعيش وضعها الجنوني ليس كمتخيل وإنما كواقع، وتعبر عن هذا الواقع بطرق مختلفة. هذه الطرق التي يتم التعامل معها، في المجتمع، كأعراض للمرض العقلي تكتسي طابعا دراميا حقيقيا لكنها تتميز مع ذلك، عن المسرح باعتباره فضاء للمتخيل. فـ«المريض العقلي يستعمل الكلمات واللعب من أجل أدرمة dramatiser الوضعية، أو يعبر بواسطة الصمت وحركات جسده» (4-15). لكن، رغم أن هذه اللغات (الكلام، اللعب، الصمت، الجسد) هي نفسها اللغات المستعملة في المسرح، إلا أن التمييز بين المسرح والجنون يبقى ضروريا انطلاقا من ثنائية الواقعي والمتخيل. في هذا السياق يلاحظ أن «الاعتقاد الجماعي وخلفية اللاوعي هما اللذين يجعلان المسَّ ممكنا. في المسرح، العكس هو الصحيح، فكل شيء تظاهر Simulacre واعٍ، كل شيء لعب» (1-48).
لكن، هل يعني هذا التمييز بين الوضع الأساسي للمسرح كفضاء للمتخيل وبين الجنون كحالة واقعية استحالة إيجاد علاقة تداخل بينهما؟ نحن لا نعتقد ذلك لأننا مقتنعون بأن للمسرح جنونه كما أن للجنون مسرحه.
2 - مسـرح الجنــون وجنــون المسـرح
يشير أوكتاف مانوني Octave Mannoni إلى وجود منظورين أساسين حول علاقة المسرح بالجنون حيث يقول: «تعرض العلاقات بين الجنون والمسرح ضمن منظورين مختلفين. فالجنون يخلق بنفسه وضعيات تجسد الدراما والكوميديا. وبالإمكان التساؤل ما إذا كان المسرح «المؤسس» يدين بشيء لهذا المسرح التلقائي. من جهة أخرى، تأخذ الخشبة نفسها هذا المسرح وتعرض علينا بالإضافة إلى الانفعال مرضى حقيقيين ومسرنمين كالآنسة ماكبث، وهذيانيين مثل لير، إلخ.» (2-301). يميز مانوني، إذن، بين مسرحين: المسرح المؤسس ويقصد به المسرح كفن قائم بذاته له أصوله وقواعده، والمسرح التلقائي الذي يعد الجنون أبرز مظاهره الأساسية. وهذا التمييز يعني أنه بقدر ما يحتوي الجنون على طاقات مسرحية حقيقية، يقدر ما يحضر هو نفسه كموضوع وكحالات وكشخوص في المتخيل المسرحي.
2 - 1 - مسـرح الجنــون
تتعدد مظاهر الجنون وتختلف أشكال التعبير عنه من حالة إلى أخرى، إلا أن ثمة شيئا أساسيا يوحد بين مختلف هذه الأشكال والحالات الجنونية هو كونها تجسد بواسطة لغة الكلام أو الجسد، وتبدو حالة المجنون وهو يتكلم أو يعبر عن إحساس ما بواسطة الحركات كما لو أنه يمثل أو يلعب بشكل تلقائي، مما يجعلنا بالتالي نتحدث عن تمسرح جنوني قاعدته الأساسية هي الجسد. ولعل هذا هو ما جعل مانوني يعتبر أن هذا الشكل المسرحي التلقائي يعد أحد المصادر الأساسية للمسرح المؤسس. يقول في هذا السياق: «ليس من قبيل الادعاء أن نعد من بين المواقف التلقائية التي يمكن افتراض كونها مصدرا للمسرح كما هو مؤسس - إلى جانب أنشطة اللعب وتمثيل الطقوس - بعض السلوكات من طبيعة أخرى تهم علم النفس المرضي. يتعلق الأمر، مثلا، بهذه الذوات التي توحي، دون وعي منها، بكونها أسيرة دور ما» (2-301).
هذه الذوات التي توحي بحركاتها وسلوكاتها ولغاتها بكونها تمثل دورا مسرحيا حقيقيا تختلف باختلاف الحالات الجنونية، عصابية كانت أو ذهانية. وباختلاف السياقات التي تمسرح فيها، ثقافيا واجتماعيا. من ثم، يمكن التمييز بين تلوينات متعددة وتجليات مختلفة لمسرح الجنون.
2 - 1 - 1 - المــسُّ والتظاهـر
يعد المسُّ «Possession» أحد تجليات الجنون أو بالأحرى أحد التأويلات التي تقدمها العشائر أسيرة التصور الديني للأشياء، لبعض السلوكات غير العادية لأحد أفراد العشيرة. فعندما تبدو عليه بعض الأعراض غير الطبيعية يقال عنه إنه مملوك أو ممسوس «Possédé». إزاء هذه الحالة يتم اتخاذ تدابير علاجية من أجل تحرير المملوك من مالكيه «Possesseurs»، أي من الأرواح الشريرة، وذلك إما بواسطة ما يسمى بـتخريج الأرواح الشريرة أو طردها «Exorcisme»، أو بواسطة ما يسمى بـدعوة الأرواح للعودة الدورية «Adoricisme». ويتم ذلك من خلال طقوس معينة تسمى شعائر المسِّ «Cultes de possession». تتضمن هذه الشعائر طاقات مسرحية هائلة، إلا أن ما يميزها هو كونها محكومة بخلفية دينية واعتقادية آسرة، أي مشدودة إلى ما يسمى بالمقدس. لذلك، فحتى في حال استحضار بعض مظاهر اللعب والتظاهر «Simulacre»، فإن ذلك يكون محكوما بهذه الخلفية. فأحيانا، يقول أحد الدارسين، «يقحم الطقسُ التظاهرَ ويستعمله لتقوية قدسيته» (1-49). كل المكونات المسرحية للمَسِّ، إذن، هي في خدمة المقدس الديني لا سيما وأن «كل عناصر الطقس التي تعد في نظرنا، مؤشرات لانفتاح المسِّ على المسرح من شخصيات، حوارات، ارتجالات، مشاركات الجمهور والاحتفال، يمكن أن يحولها المؤمنون إلى ظواهر دينية أصيلة» (1-37).
وليس هذا البعد الديني وحده هو الذي يتحكم في مسرح المسِّ، وإنما هناك بعد آخر ذو طبيعة اجتماعية يتمثل في طريقة تعبير الممسوس أو الممسوسة عن حالتها بالنسبة للعشيرة التي تعيش فيها من خلال الاستعرائية «Exhibitionnisme». إن «استعرائية الممسوسة هي استعرائية تواصل، هدفها إعادة استثمار سرٍّ فردي جد ثقيل بلغة جماعية في خدمة العشيرة» (1-44).
ولعل سطوة الديني على طقوس المسِّ هي التي تميزها عن المسرح وتجعلها قريبة منه في الآن نفسه. يتمثل التمايز في كون المسرح فنا حضريا «Urbain» مرتبطا بمفهوم المدينة، في حين أن المسّ محكوم بسلطة العشائرية. بالإضافة إلى هذا، فالمسرح لا يعد فنا إلا لكونه ينبني على أساس اللعب والتظاهر مما يجعله فضاء للشك «scepticisme» في حين أن المس مجال خصب للإيمان والاعتقاد. أو بعبارة أخرى، فالمسرح يدخل في إطار الدنيوي «Le profane»، في حين يندرج المسُّ في سياق المقدس «Le sacré». هذا التمايز نفسه - وهنا تكمن المفارقة - هو الذي يجعل التقارب بين المسرح والمسّ أكثر بروزا وأكثر مشروعية. أليست طقوس المقدس (عبادة الآلهة) هي الأصل أو المصدر الأساسي للمسرح كفن للمتخيل؟! و«هل يمكن للمسرح أن ينسى جذوره تماما ببساطة؟ لا يمكن أن يكون ثمة فن حقيقي دون «تذكر» المسِّ. هذا هو أفق الإيهام المسرحي ]...[ فالممسوس هو النموذج الأسطوري للممثل. ففي المسرح يحضر المسُّ ويغيب في آن واحد. يمكن القول إنه حنين «Nostalgie». إلا أن قوة المسرح تتمثل في جعل هذا المسّ احتماليا» (1-80).
2 - 1 - 2 - احتفال المجانيـــن
من بين أهم مظاهر مسرح الجنون، ما عرف خلال العصور الوسطى الأوروبية باحتفال المجانين «Fête des Fous». ففي إطار مجتمع محكوم بسلطة الكنيسة، أي مجتمع يمارس ضغوطا دينية باسم المقدس، ويعمل على قمع حركة الفرد وتسييجها بإكراهات المحرم، اتسعت دائرة الحقل الشيطاني «Champ diabolique» فظهرت بعض السلوكات والمواقف التي تحاول أن تتحرر من هذه الضغوط أبرزها ما عرف باحتفال المجانين. هذا الاحتفال الذي يكتسي ميزة مزدوجة: فهو، من جهة، ذو وظيفة تطهيرية تحريرية، حيث يشكل فرصة لقلب العلاقات العادية في المجتمع وارتياد المحرم وحرية التعبير، أو بعبارة واحدة هو فرصة لتدنيس المقدس «Profanation du sacré» وهنا يتجلى رد فعله ضد سلطة الكنيسة، كما أنه، من جهة أخرى، ذو وظيفة علاجية «Thérapeutique» لأنه يتيح الفرصة للمجانين للتحرر من الضغوطات النفسية التي تأسرهم وتسيج كيانهم العقلي والجسدي.
لتحقيق هذه الوظيفة المزدوجة التحريرية والعلاجية تكون الكلمة في هذا الاحتفال للعب باعتباره الوسيلة الاساسية لإضفاء الشرعية على الاحتفال. فالمتخيل يصبح هنا وسيلة لقلب الواقعي ولإضفاء الشرعية على هذا القلب في آن واحد. يقول جاك بورجو «Jacques Bourgaux» عن هذا الاحتفال: «يتعلق الأمر إذن بلعبٍ. فحول هذه القدرة يجتمع المشاركون من أجل حماية الطابـع المشـروع لاحتفالهـم، ولتفسيـر الشـرخ الـذي يحدثـه بشكـل منتظـم فـي حياتهـم» (1 - 14).
2 - 1 - 3 - مســرح العصــاب
في إطار الأشكال والمظاهر التي يتخذها مسرح الجنون، نجد هذا الجانب المتعلق بالسلوكات والمواقف التي تبديها بعض الذوات العصابية «Sujets névrotiques». في هذا الإطار، يمكن أن نتحدث عن نموذجين بارزين: نموذج الذوات المصابة بالتمثيل «Sujets histrioniques» والذوات المصابة بالهستيريا «Sujets hystériques».
فيما يخص النموذج الأول، يتعلق الأمر بذوات «لا تشعر بإحساساتها وإنما تلعبها كما لو أنها تحاول الحصول عليها. إنها تمثل، هكذا، دراميا، الحب، الحقد والرعب المهيمن، لكنها تمثل أيضا الحداد أو الابتهاج لأنها تحتمي من نقصان مشاعرها ومن الإحساس بعدميتها» (2-302). فهذه الذوات تعتمد، إذن، طرقا مسرحية حقيقية كاللعب والتمثيل من أجل التعبير عن حالات نفسية مختلفة. هل هذا يعني أن ليس هناك فرق بين الدور التمثيلي للمصاب وبين دور الممثل في المسرح، مادام هذا الأخير يعمل، في نهاية المطاف، على لعب وتمثيل إحساسات لا يشعر بها؟ لحسم هذه المسألة، لا مناص من استحضار التمييز بين الوضعين الأساسيين لكل من المسرح والجنون اللذين حللناهما في البداية باعتبار الأول يندرج في إطار المتخيل والثاني يدخل في إطار الواقعي. هذا التمييز يترتب عنه موقف مختلف إزاء الدور الأول والثاني من لدن المتفرج، حيث يعتبر دور ممثل المسرح وسيلة أساسية لتحقيق ما يسمى بالإيهام المسرحي «Illusion théâtrale» ويفرض بالتالي نمطا خاصا من التلقي يعتمد على ميكانيزم النفي «Dénégation»، أي الاعتراف بعلاقة الفرجة المسرحية بالواقع مع نفي الطابع الواقعي عنها. أما فيما يخص دور الذات المصابة بالتمثيل، فإن العكس هو الصحيح، لأن الأمر يتعلق في الواقع، بوضعية حقيقية يتم التعامل معها كواقع وليس كتخيل. فالإيهام المسرحي «يتطلب تواطؤنا، أي تواطؤنا كمتفرجين لكن هذا لا يتشابه في شيء مع عدم الاعتراف ومع السذاجة» (2-303). هذا الموقف الأخير هو الموقف المترتب على حالة المصاب بالتمثيل.
فيما يتعلق بالنموذج الثاني الخاص بالذوات المصابة بالهستيريا، من المعروف أن «الهستيريا هي كبت، أي دفع، داخل اللاشعور لرغبة شخصية متناقضة مع الصورة التي كونتها الشخصية عن نفسها. فالهستيريا هي تحويل هذه الرغبة الشخصية بطريقة فوضوية وعنيفة» (1-42).
فالأزمة الهستيرية تتجسد كرد فعل عنيف وقوي من قبل الشخصية، ويتجلى هذا العنف في مجموعة من المواقف والحركات القوية، وفي الصراخ الشديد ومحاولة خلق الفوضى في العالم المحيط بالذات المصابة بالهستيريا من خلال التمزيق والكسر والضرب، إلخ. من ثم، يمكن القول إن «الأزمة الهستيرية هي التحيين ‘’Actualisation’’ اللاواعي والدرامي للاستيهام بطريقة حركية أساسا» (1-43). فالهستيريا هي مسرح الحركة العنيفة أو مسرح الفوضى، لكن ليس «الفوضى المنظمة» - إذا اردنا استعمال تعريف ديريدا Derrida - المرتبطة بالمسرح الحقيقي، وإنما الفوضى غير القابلة للتنظيم خصوصا وأن الأزمة الهستيرية تعد من أصعب الحالات الجنونية التي يستعصي احتواؤها وتهدئتها لأنها تقوم على العنف والفوضى الشاملة.
2 - 1 - 4 - علم النفس المرضـي والمسـرح:
إن إبراز المظاهر المسرحية لمختلف المواقف والحالات الجنونية يعد وجها واحدا لهذا التداخل العجيب بين عالمين مختلفين من حيث الوضع والطبيعة وهما المسرح والجنون، ذلك أن القارىء لأدبيات علم النفس المرضي «Psychopathologie» يكتشف الوجه الثاني لهذا التداخل خصوصا عندما يجد أن علما حديثا ذا طبيعة علاجية كهذا يستوحي اللغة المسرحية لوصف مختلف الحالات الجنونية التي يواجهها مما يزكي البحث عن مظاهر التمسرح داخل الجنون. يقول مانوني في هذا السياق: «على كل حال، إنه لشيء ذو دلالة أن يكون علم النفس المرضي في حاجة، من أجل أوصافه، إلى استعارة جزء من معجمه من معجم المسرح. لقد أطلِقَ، مثلا، إسم ''ممثلو الواقع'' على هذه الذوات العصابية التي تجعل من حياتها - بالنسبة إلى نفسها وإلى الآخرين - تمثيلا لخيالاتها الخاصة، ووصف بمصطلح ''أدرمة'' أحد مظاهر سلوك بعض الذوات التي تدبر، سواء عن علم أو عن جهل، كوارث حقيقية، متخيلة أو واقعية، شبيهة بنهاية التراجيديات» (2-302).
يتضح، إذن، أن الحالات العصابية التي سبق أن أبرزنا بعض مظاهرها المسرحية تجد ما يزكي بعدها المسرحي في العلم الذي يتخذها موضوعا له. واختيار وصف «ممثلو الواقع» اختيار يكشف البعد المزدوج لهذه الحالات المتمثل في البعد التخييلي الذي يحيل عليه لفظ «ممثلو» والبعد الواقعي الذي يشير إليه لفظ «الواقع» مما يعني أن مسرح العصابيين ليس تمثيلا لمحاكاة واقع ما كما هو الشأن في المسرح الحقيقي، وإنما هو تمثيل للواقع نفسه. علاوة على هذا، فإن إطلاق لفظ «أدرمة» على بعض الحالات العصابية يعد اختيارا دقيقا لأنه يركز ويعبر بعمق عن هذه الحالات مثل حالة الهستيريا التي تكون مقترنة ببعض الكوارث الحقيقية ينجم عنها دمار للذات ولما يحيط بها مثلما هو الأمر بالنسبة لبعض الأبطال التراجيديين في المسـرح.
2 - 2 - جنـــون المسـرح:
يلاحظ القارىء للإبداع المسرحي منذ اليونان إلى الآن أن كثيرا من النصوص المسرحية تستوحي الجنون كموضوع أساسي، وتبني متخيلها بواسطة شخصيات تعيش مواقف وحالات جنونية مختلفة. والملاحظ أن تصورات العصر عن الجنون قد انعكست بشكل كبير على الطريقة التي مسرح بها هذا الجنون في الإبداع الدرامي. فمثلا، نجد صدى للتصور الذي يعتبر أن للجنون مصدرا فوق - طبيعي «Origine surnaturelle» خلال عصر هوميروس، في الحالة التي قدَّمَ من خلالها أغاممنون في «إليادته»، كما نجد شاعرا تراجيديا كسوفوكل يصف في عمله «أجاكس Ajax» التجربة الرهيبة التي يمكن أن يعيشها إنسان في مواجهة قدر يتجاوزه، أي في مواجهة قوة فوق طبيعية.
لقد اتخذ حضور الجنون في عالم المسرح - عبر المسار التاريخي لهذا الفن - أبعادا جد معقدة. ففي الإبداع المعاصر حيث تمَّ تحويل التعامل مع الجنون باعتباره حالة مرضية واقعية إلى التعامل معه بوصفه مجالا فنيا يحتوي طاقات إبداعية جد هامة، لا غرو أن نجد مبدعا في حجم أنطونان أرطو Antonin Artaud أحدث قلبا في تاريخ المسرح يعيش على فكرة تكريس سلطة اللامعنى «L’insensé»، بل ويعيش هو نفسه حالة جنونية خاصة وصفها بعض الأطباء بالشيزوفرينيا «Schizophrénie».
2 - 2 - 1 - المتخيـل كملاذ للجنـون:
يقول بيير جاسرم Pierre Jacerme: «سواء رجعنا إلى علم الاجتماع أو التحليل النفسي الفرويدي أو الطب النفسي للثلث الأول من القرن العشرين، فإننا نجد أنفسنا أمام موقف علمي يريد تفسير «الجنون» ويبين أن له معنى دائما وأنه يشكل نظاما له قوانينه الخاصة. لكن، أليس فهم الجنون بهذه الطريقة هو تخل عنه بشكل حاذق؟ أليس الجنون هو ''ما ليس له معنى'' بشكل خاص؟ نعرف أن الجنون في ''حالته الطبيعية'' أراد إسماع صوته خلال هذا القرن، وأنه لم يتمكن من القيام بذلك إلا بطريقة محولة، برفض الطب النفسي ورفض المجتمع، وبالتعبير عن الذات، بشكل أحسن في دائرة الفن، وبطريقة مضادة للعلم ومعاشة باعتبارها مجالا للمتخيل كإطار لا ينفذ للرغبات والأحلام» (4 - 16/17).
إن ارتباط الجنون بكل ما هو مرضي، وغير عقلاني، ومدمر، ومعيق جعل الخطابان الاجتماعي والطبي يلتحمان من أجل خلق وسائل للردع والإقصاء والنبذ إزاء المجنون. وتعد المعازل الطبية أبرز مظهر لهذا التلاحم مادامت وظيفتها مزدوجة علاجية وإقصائية في الآن نفسه. هذه الوضعية هي التي دفعت بالجنون لكي يبحث عن ملجأ أو ملاذ يسمع من خلاله صوته ليس باعتباره حالة مرضية سلبية، وإنما باعتباره طاقة مولدة للإبداع، وقد كان هذا الملاذ هو مجال الفن أو المتخيل. لذا، فلا عجب أن نجد طاقة إبداعية فلسفية وأدبية مستوحاة من عالم الجنون تشكل قوام تجربة كل من الفيلسوف الألماني نيتشه، وكذا الاتجاه السوريالي خصوصا عند أحد أقطابه البارزين أندريه بروتون André Breton.
فنيتشه، في أواخر القرن التاسع عشر، وفي الوقت الذي كان فيه العلم يبحث عن ترسيخ يقينياته ونشرها في كل مكان، كان هو يقول: «إن اليقين هو الذي يدفع إلى الجنون»، وأن «الفرد لا يصبح هو نفسه حقيقة إلا بفقدان هويته المحددة»، أي بواسطة المسخ «Métamorphose»، هذا المسخ الذي وإن كان دون معنى بالنسبة للعلم، فهو مليء بالمعاني بالنسبة لمن يرى في الأطر العقلانية للعلم مجرد «حراس مجانين» (4-17/18). أما فيما يخص السورياليين، فـ «كل التيار السوريالي سواء في الشعر أو الرسم أو المسرح أو السينما، مهووس ببناء جسور بينه وبين هذا «الجنون» الطبيعي الموجود، رغم كل شيء بالقرب منا، وفضح العلم الذي يحتجزه في أعمق أعماق المعازل» (4-18). من هنا، فإن الجنون، بالنسبة لأندري بروتون، يحقق تواصلا غريبا معنا لأنه قريب منا. وعلى الرغم من كونه طبيعيا، إلا أن الحصول عليه لا يتم إلا بواسطة مسار الكتابة الأوتوماتيكية والعشق المجنون والفعل المجاني. في هذا السياق، لا غرو أن نجد كلا من بروتون وإيلوار Eluard ينشران سنة 1934 ديوانا شعريا بعنوان: «L’immaculée conception» حيث عنون جزء منه بـ «أشكالُ مسٍّ Possessions» يتضمن نصوصا كل واحد منها «محاولة تصنُّع» مرض عقلي معين، كما أن كتاب Nadja لبروتون يجسد بشكل واضح رؤية أحد السورياليين تجاه الجنون كوسيلة تفتح المجال أمام الكائن نحو سوريالية ما «La surréalité».
2 - 2 - 2 - مسرحي مجنـون: أرطو الشيزوفريني:
لا يمكن أن نتحدث عن علاقة الجنون بالمتخيل الإبداعي وخصوصا المسرحي منه دون أن نستحضر المثال الصارخ والمثير في هذا الإطار، وهو أرطو حيث نجد أن الأطباء أكدوا أنه مصاب بحالة جنونية خاصة تسمى الشيزوفرينيا.
لقد عرف أرطو بموقفه الواضح إزاء كل مظاهر الطب العقلي نفسيا كان أو نفسانيا، بل وضد المجتمع الذي خلق الطب النفسي من أجل حياة مؤسساته، أو بعبارى واحدة ضد كل ما يأسر الفكر، من ثم جاء دفاعه عن حق غريب ومثير هو «الحق في الهذيان Droit au délire».
انطلاقا من هذه الخلفية، لا نستغرب أن يخصص أرطو كتابا للرسام فان غوغ Van Gogh تحت عنوان: «Van Gogh le suicidé de la société» مؤكدا فيه أن هذا الرسام وُضِعَ في المعزل عن باطل لأنه ليس مجنونا، وإنما اتهم بذلك لأن فنه التشكيلي استطاع أن يزعزع أركان البورجوازية في الإمبراطورية الثانية. فالمجتمع، إذن، هو الذي اعتبر هذا الفنان مجنونا ودفع إلى قتله بهذه الطريقة. ففان غوغ - في نظر أرطو - لم يمت وإنما قتله المجتمع، هذا المجتمع الذي أخذ منه حياته وسرق منه موته في آن. يقول أرطو في الكتاب المذكور: «لا أحد كان وحيدا أبدا عند الولادة، ولا أحد أبدا يكون وحيدا عند الموت.. وأعتقد أنه يوجد دائما أحد آخر في لحظة الموت القصوى من أجل تجريدنا من حياتنا الخاصة» (4-25).
ولعل أرطو يرى أن ما كتبه عن فان غوغ يطابق تماما ما يستشعره هو إزاء نفسه لأنه يعتبر أن حالته تشبه كثيرا حالة هذ الفنان. لهذا فليس غريبا أن نجد الأطباء يصفونه بالشيزوفرينيا، هذه الحالة التي ولَّدت في دواخله طاقة إبداعية هائلة مليئة بالتوتر والتناقض. يقول بورجو في هذا الإطار: «يقول الأطباء إن أ. أرطو كان شيزوفرينيا. إنهم يلخلصون بهذا عنف التناقض الوجداني الذي يوجه حياته كلها. التناقض الوجداني ''Ambivalence'' هو العَرَض الرئيسي للشيزوفرينيا. فالأحاسيس والأفكار والمواقف تتصارع بقوة داخل أرطو. هذا الأخير يبدو دائما على حافة الجدبة، والجدبة هي اللحظة التي يفجر فيها التناقض الوجداني الفرد جسديا. عاش أرطو تمزقه في جسده، لهذا تبدو الجدبة في عمق حياته، بمعنى آخر، إن هذا التفجر نفسه هو سبب الجدالات والتوترات والتمزقات داخل إرادته» (1-65). مثل هذا الرأي يبدو من المفيد جدا البحث عن مصداقيته وتحليل تجلياته في الأعمال الإبداعية لأرطو بما فيها عمله النظري المهم «المسرح وقرينه» الذي يتضمن عدة قرائن ومؤشرات تثبت هذا التناقض الوجداني الملازم لحياة أرطو باعتباره تجسيدا لوضعيته الشيزوفرينية. إلا أن عملا كهذا يتطلب وقفة عميقة خاصة ليس هذا مجالها، لهذا نكتفي فقط بتسجيل رأي يلخص ما قام به أرطو مقارنة مع ما قام به برتون في إطار إعادة الاعتبار للجنون كقيمة إبداعية. يقول صاحب هذا الرأي: «أن يكون اللامعنى من سلطتنا وألا يكون لأحد الحق في منعنا من هذه السلطة الأساسية، هذا ما وضَّحَه بروتون، لكن، شيء آخر أن نكون في سلطة اللامعنى وأن نقول ذلك، فهنا يكمن معنى صراع أنطونان أرطو» (4-22). ولعل جرأة أرطو هاته هي التي جعلته نسيجا فريدا في تاريخ العلاقة بين المسرح والجنون.
2 - 2 - 3 - شخصيــات مجنـونـة:
يعتمد الإبداع المسرحي في بناء متخيَّل مستوحى من الجنون على تقديم نماذج وشخصيات مجنونة. هذه الشخصيات التي تتمثل في الهذيانيين والممسوسن والمخبولين بالإضافة إلى المرضى العقليين. يقول مانوني في هذا السياق: «ينبغي الآن أخذ العلاقات بين الجنون والمسرح من زاوية مغايرة تماما، وذلك بالتذكير بأنه منذ البدايات وعلى كل حال منذ «أجاكس» سوفوكل، استطاع المريض العقلي أن يظهر على الخشبة باعتباره شخصية، وأن يكون الجنون بمثابة دور. لا يتعلق الأمر بالانفعاليين، والشواذ، والمغرورين الذين يمكن أن يدرس سلوكهم علم النفس المرضي، وإنما يتعلق الأمر بشخصيات تعد مجنونة بمعنى مريضة عقليا، تقدم على الخشبة» (2-309). فإذا أردنا أن نعود إلى البدايات، يمكن أن نستحضر الوضعية التراجيدية لمجموعة من شخصيات التراجيديا اليونانية باعتبارها إحدى أهم تجليات الجنون حيث «تقدم العديد من شخصيات التراجيديا على المسرح كضحية لما سماه القدماء بـ «المانيا Mania»، أي «الغضب المقدس» أو «الحماسة» أيضا، وهي اضطرابات عقلية توصف باعتبارها اختراق الوعي من قبل أجسام فوق طبيعية» (1-52). وقد سبقت الإشارة إلى مثال مهم في هذا الإطار، هو مثال شخصية «أجاكس» في العمل التراجيدي لسوفوكل.
فيما يتعلق بالمسرح الكلاسيكي، يمكن أن نذكر ببعض شخصيات شكسبير الذي اعتبر الجنون بمثابة اللحظة التراجيدية التي ينفصل فيها الفرد عن العالم ويجد نفسه وحيدا في الطرف الآخر، كما اعتبر أن الوهم والجنون شكلان أساسيان يتجسد من خلالهما الشر الكوني بشكل حقيقي في الإنسان. من هنا، فغيرة عطيل، مثلا، هي هذيانه الخاص الذي سوف يتحول إلى شر حقيقي تمثل في قتل دزدمونة الجميلة والبريئة. فعطيل سوف يكتشف جنونه في الخديعة. فالجنون مرتبط هنا باستحالة العودة إلى الوراء، إلى ما قبل موت دزدمونة.
إذا انتقلنا إلى المسرح المعاصر وجدنا نماذج متعددة من هذه الشخصيات المجنونة داخل المتخيَّل المسرحي. وسنكتفي، هنا، بالتوقف عند بعضها وخصوصا مع المسرحي الإيطالي بيرانديلو Pirandello. يلاحظ أن مختلف الموضوعات «Thèmes» التي تطرقها مسرحياته بما فيها ثنائيات الوهم - الحقيقة، الكائن - الظاهر، التمثيل - الواقع بالإضافة إلى بعض التقنيات الدرامية التي اشتهر بها وعلى رأسها تقنية التمسرح المضاعف «Double théâtralité» أو ما يسمى بالمسرح داخل المسرح، كل هذه الأشياء جعلت إمكانات التداخل بين الممثل والمجنون واردة بشكل كبير، ولعل هذا ما يؤكده مانوني الذي يرى أن العمل المسرحي لبيرانديلو «يمكن أن يقرأ كمحاولة لاستغلال تشابهات لعب الممثل مع الإصابة بالتمثيل «L’histrionisme» انطلاقا من أنه إذا كان الممثلون يلعبون أدوارا، فإن الأشخاص - «الواقعيين» يقومون بنفس الشيء في الحياة» (2 - 303). يكفي أن نستحضر شخصيات المسرحية الشهيرة لبيرانديلو «ست شخصيات تبحث عن مؤلف» لتتبين لنا صحة هذه المقايسة «analogie» بين الشخصية المسرحية داخل لعبة التمثيل داخل التمثيل، وبين الذات المصابة بالتمثيل في الواقع.
في إطار المسرح المعاصر دائما، تعتبر الأعمال الإبداعية لكتاب مسرح العبث مجالا خصبا للجنون بمختلف تجلياته. فالشخصيات العبثية عند كل من بيكيت Beckett ويونسكو Ionesco وأداموف Adamov شخصيات ممزقة يطاردها الإحساس بالغربة والفراغ والعدمية، كما أنها تتميز بكونها شخصيات غير منسجمة مع واقعها. ولعل هذه المميزات وما يترتب عنها من سلوكات ومواقف درامية تعكس، بشكل واضح، الوضع الجنوني لهذه الشخصيات. إلا أن ما يميز جنونها هو كونه يعكس روح العصر ويستثمر بالتالي، في سياق رؤية متكاملة للأشياء والعالم، هي رؤية الكتاب المسرحيين العبثيين.
3 - المسـرح والطب العقلـي:
تكشف علاقة المسرح كمؤسسة أدبية وفنية بالطب العقلي باعتباره المؤسسة العلاجية والاجتماعية التي تتخذ الجنون موضوعا لها، عن أبعاد جد هامة فيما يخص موضوع المسرح والجنون. فعلاوة على العلاقة الإبداعية التي حلَّلنا مختلف جوانبها في حديثنا عن مسرح الجنون وجنون المسرح، نجد علاقة أخرى يمكن أن نسميها علاقة طبية أو علمية مادام المسرح يستغل فيها كإحدى الوسائل الطبية الخطيرة لمعالجة المرضى العقليين. هذه العلاقة التي تحدَّدَت انطلاقا من تصورات مختلفة طبية وجمالية ساهم فيها أطباء ومسرحيون على حد سواء، هي التي ستؤدي في نهاية المطاف، إلى نشوء ما يسمى بالمسرح الطبي «Théâtre médical»، هذا المسرح الذي سيثير إشكالات وجدالات متعددة تجاوزت البعد الطبي والجمالي لهذا النوع من المسرح لتمس جوانب متعددة ذات طابع اجتماعي، سياسي وأخلاقي.
3 - 1 - لا مسرحة الطب قبل تطبيب المسرح:
ليس من السهل أن يدخل المسرح، باعتباره عالم الفن والمتخيل، عالم الطب باعتباره عالم العلم والتجربة والعلاج، دون أن يثير ذلك حفيظة البعض، ودون أن يكون ذلك مستفزا لمن يعتقدون في الطابع العلمي المحض لمهنة الطبيب العقلي في تعامله مع مريضه.
في هذا الإطار طرحت أسئلة متعددة منها: كيف يمكن استثمار قوة التمسرح من أجل تكوين الأفراد وتغييرهم؟ ما هي الصيغة أو الشكل المسرحي الملائم للممارسة والعلاج الطبيين؟ ما هي إمكانيات وحدود نجاح الطب العقلي باعتماده على ممارسة مسرحية ذات أهداف علاجية؟ من هو الطرف الجدير بتخطيط وتوجيه وتحقيق هذه الممارسة المسرحية العلاجية، الأطباء أم المسرحيون؟.
كل هذه الأسئلة تلخص مدار الصراع الذي احتدم بين الأطباء والمسرحيين حول المسألة والذي تتحدث عنه إحدى الدارسات قائلة: «حاول أطباء أن يجعلوا لمعرفة الفعل المسرحي ولتقنياته التجريبية في الغالب، خاصية العلمية، في الوقت نفسه كان يحلم هؤلاء الأطباء أنفسهم بخلق مسرح ملائم للغايات التي ينيطونه بها. لنقل بتلخيص، إن أطباء ممثلين لمجموع المهنة، ينفون أية أحقية لمحترفي المسرح بممارسة مهنتهم في علاقة مع الطب العقلي، لأن الطب هو الذي له الحق في تحمل المحاولات العلاجية ذات العلاقة بالمسرح، وفي إنشاء مسرح طبي ملائم على المدى البعيد» (3-312).
إن الأطباء، باسم الطابع العلمي المحض للممارسة الطبية العقلية، يرون أن الأمر يتطلب، أولا، نفي الطابع المسرحي عن الممارسة الطبية (Déthéâtraliser la médecine) قبل إضفاء الطابع الطبي على المسرح (Médicaliser le théâtre). وإذا كانت العملية الأولى تتجسد عبر الآراء الصريحة والواضحة للأطباء الذين يرون أن مهنتهم ذات طبيعة علمية وينبغي لها أن تحافظ على هذه الطبيعة حرصا على نجاعتها ومصداقيتها الاجتماعية، فإن العملية الثانية المتمثلة في محاولة تطبيب المسرح قد عرفت مراحل بدءا من محاولة استبطان العلم الطبي للبعد المسرحي الذي أنكره من قبل وذلك بإدماجه في شخصية الطبيب، خلال القرن التاسع عشر، مرورا بتجارب مختلفة عرفها القرن العشرون، حاول أصحابها من موقعهم كأطباء، استغلال المسرح بطرق مختلفة لمعالجة المرضى العقليين منها، إشراك المجانين في الفرجات المسرحية )تجربة دارشارنتون Charenton)، استعمال الريبرتوار المسرحي من أجل أهداف علاجية (تجربة لوري Leuret) أو التطبيب المسرحي عبر مسرح ارتجالي يسمى السيكودراما «Psychodrame» (تجربة مورينو Moreno).
3 - 2 - الحيلة الطبية حيلة مسرحيـة
من بين أهم الأشياء التي تجسدت من خلالها علاقة المسرح بالطب العقلي، خلق ما يسمى بالحيلة الطبية «Ruse thérapeutique»، وهي عبارة عن طرق إيهامية مختلفة باختلاف الحالات المرضية تخضع لتخطيط وتنفيذ، أو بعبارة أكثر قربا من المسرح، تخضع لإخراج طبي «Mise en scène médicale» يخلص المريض من هذياناته وأوهامه عن طريق حبك خدعة وخلق وضعية غير طبيعية يعيشها المريض كما لو أنها طبيعية من خلال الإيهام. ولعل هذه الخصائص هي التي تجعل من الحيلة الطبية حيلة مسرحية بامتياز.
وقد عرف تاريخ الطب العقلي ممارسات مختلفة من هذا القبيل سواء خلال القرن التاسع عشر كتجربتي بينل Pinel وكيسلان Guislain أو خلال القرن العشرين كتجربتي الماركيز دو ساد le Marquis de Sade ولوري Leuret.
3 - 2 - 1 - تجارب القرن التا سع عشـر
3 - 2 - 1 - 1 - بينل Pinel وتمثيل مشاهد هذيان المريض
تتحدث ماريفون سيزون Maryvonne Saison عن هذه التجربة قائلة: «يتعلق الأمر ]...[ بالدخول في لعب المريض بالتمثيل الفعلي لمشاهد هذيانه، ولمحالة تحويل هذا الهذيان بواسطة اللعب وتكييفه وجعله مطابقا للواقع. ينبني هذا الموقف على فكرة إمكانية استعمال حيلة للتغلب على استيلاب والتباس مثل هذا الفعل المنجز من أجل الخداع والمؤكد بكونه ينبغي أن يحرر المريض من هذيانه الذي يعـرف الكل خطـورته، في الغالـب، بالنسبـة إليـه كمـا بالنسبـة إلى الآخرين» )3-313(.
يتضح من هذا القول أن بينل يؤكد على استعمال الحيلة الطبية، وذلك بالاعتماد على التمسرح المتمثل في عرض مشهد مسرحي يجسد هذيان المريض والعمل من خلال المسرحَة (Théâtralisation) على تحويل اتجاه الهذيان بشكل يجعله مكيفا مع الواقع انطلاقا من الخداع (Mystification) لأن «الفعل يؤثر عبر الخداع وبفضله» (3 - 315). من هنا، فالأثر الطبي لا تتحقق فاعليته إلا بإتقان الحيلة من لدن الطبيب، وهذه مسألة تتطلب مهارة كبيرة حتى لا تنقلب الحيلة على أهدافها العلاجية وتجعل المريض يدخل هذيانا آخر أكثر خطورة كما سنرى ذلك في تجربة كيسلان Guislain.
3 - 2 - 1 - 2: كيسلان Guislain خدع لتبديد الهذيان ومحدودية الحيلة الطبية.
تسير تجربة كيسلان في نفس المسار الذي سارت فيه تجربة بينل وهو استخدام مجموعة من الخدع (Stratagèmes) لتبديد هذيان المريض. في هذا الإطار يتحدث كيسلان عن مجموعة من النماذج والتجارب التي قام بها والتي أعطت نتيجة إيجابية تحرر فيها المريض من هذيانه. من ذلك، مثلا، المريض الذي رفض الأكل لأنه يتوهم أنه ميت. ولتحريره من هذا الوهم تمَّ خلق مشهد مسرحي تمثل في إدخال أناس ملفوفين في ثوب أبيض كأنهم موتى حقيقيون، إلى بيته وإعطائهم الأكل في حضوره والعمل على إقناعهم إياه بأنهم موتى مثله، ولكنهم - مع ذلك - يأكلون. وفعلا، نجحت هذه الخدعة، وبعد أكله ونومه العميق تحرَّرَ نهائيا من هذيانه ووهمه وحقَّقَت هذه الخدعة الحبية (Stratagème Amical) الهدف العلاجي المتوخى منها.
إن هذا النوع من التمسرح نجده أيضا في بعض التقنيات الأخرى «مثل تقنية العرض البديل (Placebo) المتمثلة في الطبيب الذي يعطي شبه - دواء من أجل علاج مرض وهمي« (3-316). في هذا الإطار يحدثنا كيسلان عن الشخص الذي توهَّمَ أنه أصيب بمرض جنسي لا لشيء إلا لكونه جلس على كرسي غادره شخص مصاب بهذا الداء. أكد له الطبيب أن مرضه حقيقي وأنه لابد من أخذ دواء لعلاجه، فأعطاه وصفةً تحتوي على أشياء دون فائدة طبية. وبهذه الوسيلة، أي وسيلة الوصفة الكاذبة عاد المريض إلى حالته الطبيعية ظانا أنه شفى من مرضه الوهمي بهذه الوصفة.
كل هذه الأمثلة تؤكد أن للحيلة الطبية مظهرا فُرْجَويا (Aspect spectaculaire) بارزا. هذا المظهر هو الذي يجعلها معرضة للانكشاف ومهدَّدَة بالتالي، بإعادة المريض إلى حالته الأولى. لهذا، يؤكد كيسلان أن «النقطة الأساسية في فن قيادة العقول هي عدم الكشف لها أننا نقودها. ينبغي أخذ الحذر حتى لا تنكشف للمريض الخدعة التي نستعملها، فيما بعد، لأن لا شيء أكثر إزعاجا من ذلك» (3-313). والانكشاف يؤكد أن الخدعة المستعملة لم تعط سوى نتيجة جد سريعة تتجلى في زوال الوهم وبقاء جذوره الحقيقية. ولعل الأخطر في هذه الحيلة الطبية ذات المظهر الغريب هو كونها قد تنقلب أحيانا ضد صاحبها. وهذا ما وقع فعلا لكيسلان نفسه عندما واجَهَ مريضا يعتقد أنه لويس الرابع عشر، ولمحاولة تحريره من هذا الوهم تمَّ إقناعه بأن الملوك يعرفون، على الأقل، القراءة والكتابة. ونظرا لتأثير هذه الحقيقة فيه، عمل المريض الذي لم يكن يعرف شيئا عن القراءة والكتابة على تعلمهما بشكل لا بأس به خلال ثلاثة أسابيع مما جعله يتمسك أكثر بوهمه، وجعل، بالتالي الخدعة الطبية غير ذات جدوى.
3 - 2 - 2 - تجارب من القرن العشريـن
بدخول المرحلة المعاصرة تظهر تصورات جديدة حول استغلال المسرح في مجال الطب العقلي ارتبطت بتحول عام في النظرة إلى شخصية الطبيب نفسه الذي أصبح من الواجب عليه أن يمتلك طاقات وخاصيات جد مهمة تجعله في مستوى المهمة المنوطة به. لذا، فإلى جانب معرفته الطبية المتخصصة ينبغي أن يتوفر على معارف متعددة تمثل مسايرته للتطورات العملية حتى لا يبدو أقل معرفة أمام بعض المرضى الذين لهم ثقافة مهمة. ومن مظاهر هذا التحول أيضا أن المسرح الطبي لم يعد يركز على الجانب المثير، وإنما أصبح الأمر يتعلق بطقوس توزع فيها الأدوار بين الأطباء والمرضى، أي بعبارة أخرى، أصبح الحديث عن المعرفة التي كوَّنَها الأطباء عن المسرح من خلال التأكيد على مقولتي اللعب (Jeu) والدَّور (Rôle).
في سياق هذا التحول تندرج تجارب مختلفة مثل تجربة دار شارنتون مع كل من دوكولميي De Coulmier والماركيز دو ساد le Marquis de Sade، وتجربة مدرسة المرضى العقليين (Les Aliénés) مع لوري Leuret، ثم تجربة مسرح الارتجال مع مورينو Moreno.
3 - 2 - 2 - 1 - شارنتون والعلاج العقلي بواسطة ممارسة المرضى للمسـرح:
قامت تجربة دار شارنتون للعلاج العقلي على أساس معالجة المرضى بواسطة المسرح. والطريقة المتبعة في ذلك هي خلق فرجات مسرحية يشارك فيها المرضى كممثلين، ويأتي الجمهور من خارج الدار من أجل مشاهدة هذه الفرجات. هذه الطريقة أثارت حفيظة الأطباء وفجَّرَت نقاشا حادّأً بينهم وبين القائمين على دار شارنتون. فالأطباء ليسوا ضد الفرجة، لذا لا يكتسي نقاشهم طابعا نظريا وإنما يكتسي طابع الصراع على السلطة يتمثل في رفضهم لاستعمال فرجات طبية من قبل أشخاص ليسوا أطباء، بمعنى أنهم أحسوا بأن هناك تطاولا على مهنتهم لا يمكنهم قبوله. من أجل تدعيم هذا الموقف تمَّ الاستناد على العامل الأخلاقي لإدانة الممارسة الطبية المعتمدة على المسرح في شارنتون، خصوصا وأن «المجانين المشاركين في الفرجة يصبحون موضوع فضول بالنسبة للمتفرجين الذين من الممكن أن يكونوا ساخرين وشرسين. وأخيرا، وهنا يتدخَّلُ السَّنَن الأخلاقي للطبيب، ففي مثل هذا السيَّاق يمكن للعلاج أن يسيء للمريض لأنه، بمناسبة الفرجة، فإن الامتياز وحده يحدد من ينبغي أن يشاركوا في الفرجة، وبهذا يثير الأحقاد والخصومات، والضغائن، ومن هنا تأتي الانفجارات المترتبة عن الهذيان وعودة المسِّ والغضب» (3-321).
إن الموقف الذي اتخذه الأطباء، إذن، يحاول تدعيم الموقف العلمي لديهم المتمثل في لا جدوى الممارسة الطبية في شارنتون مادام أصحابها ليسوا أطباء، بالموقف الأخلاقي الذي يدين عرض فرجة مسرحية، يصنعها مجانين، على متفرجين غير مجانين.