رؤى في المسرح العالمي والعربي
لعب المسرح العربي في النصف الثاني من القرن المنصرم دوراً مهماً في توعية المتلقي والمشاهد العربي بل وحتى العالمي أحياناً، وكان المسرح وقتئذ يلامس هموم ومشاكل الشارع العربي، سواء ما كان منها سياسياً أم اجتماعياً أم غير ذلك،
إلا أنه وفي مطلع تسعينيات القرن المنصرم شهدنا تراجعاً كبيراً في حركة المسرح العربي، وغابت ثقة الجمهور في المسرح وتضاؤل إمكانياته أمام ثقافة الصورة والبث العالمي وتقنيات الصورة بما فيها من سحر وإبهار، حيث فقد المسرح عموده الفقري، هذا فضلاً عن أن عدداً كبيراً من المسرحيين العرب انصرفوا إلى التمثيل بالمسلسلات والأفلام لأنها الطريق الأسهل للوصول إلى الثراء الفاحش. والحقيقة أن المسرح العالمي يبقى متميزاً عن المسرح العربي، بعض الشيء، فهو لا يعاني من التخبط والفقر والفوضى التي يعاني منها مثيله العربي، فالنسب متفاوتة رغم شمولية ثقافة"الميديا"، إلا أن المسرح في العالم، بشكل عام، يحظى بتلاحم بين المرسل والمتلقي مع استيعاب كامل للرسالة، أضف إلى هذا تفوق المسرح العالمي بالتقنية واستغلال التمويل الجيد، بما يحقق أهدافهم، والوعي بالأدوات والتقنيات الحديثة والمطبوعات المسرحية.
ولأن حركة المسرح العربي أصيبت بنوع من الشلل ،القابل للشفاء، إذا أراد القائمون عليه ذلك، فقد حاول الدكتور رياض عصمت، وهو الباحث المسرحي والأديب الرزين المعروف بعمقه وسعة اطلاعه وحرصه على ترميم ما تم تخريبه سواء من الثقافة أو المسرح أو الفكر، دراسة حال المسرح العربي والعالمي محاولاً وضع النقاط على الحروف لإيجاد حلٍّ للمشكلات التي اعترت المسرح العربي والعالمي على حد سواء. يتوقف الدكتور عصمت في كتابه الصادر حديثاً عن دار الفكر السورية عند بضع تجارب مسرحية في سورية ولبنان، وهذه التجارب أسهمت في إرساء أسس لتجريب يستلهم"العالمي" و"الإنساني"، دون اقتداء وتبعية، بل بتأصيل مبدع ومثاقفة واعية. ففي أواخر الستينيات، أخرج السوري رفيق الصبان مسرحيتين تقليديتين نسبياً بأسلوب فيه نزعة إلى التجريب الشكلي الأصيل، المنبثق من جوهر مضمون كل مسرحية. ففي إخراجه لمسرحية ناظم حكمت"حكاية حب"، اختار أن يجعل أزياء جميع الممثلين بالأسود والأبيض، في حين اختار لأزياء ممثلي عرضه لمسرحية ألفريد فرج"الزير سالم" اللونين الأسود والأحمر. وحاول الصبان أن يمسك العصا من الوسط، إذ كان مايزال يؤسس لجمهور التجريب، وحرص على توازن بين إرضاء طموحاته الفنية على غرار جان فيلار ومهرجانه الشعبي في أفينيون، وبين تقديم فن مسرحي يمتع ويبهج. وكان لبنان منذ السبعينيات أرضاً خصبة للتجريب، نظراً لديمقراطية مناخه السياسي وتطوره الاجتماعي، قبل أن يمر بكبوة حربه الأهلية، ثم يتجدد كالعنقاء من قلب الدمار.
فلا أحد ينسى إسهامات ريمون جبارة ويعقوب الشدراوي ونضال الأشقر وروجيه عساف ومنير أبو الدبس وأنطوان ولطيفة ملتقى وشكيب خوري ورضا كبريت ونقولا دانيال وجلال خوري. وكان لدى كبار المخرجين الرواد في العراق نزعات للتوازن بين إرساء تقاليد مسرحية وبين التجريب، كما في أعمال إبراهيم جلال وقاسم محمد وسامي عبد الحميد. واستمر التجريب في المسرح العراقي مع عوني كرومي وعزيز خيون وجواد الشكرجي وصلاح القصب وناجي عبد الأمير، وغيرهم من الأسماء التي لم يتح لنا انقطاع التواصل الاطلاع على تجاربها، ثم مع المهاجر دائماً جواد الأسدي في تجاربه الفلسطينية والسورية والأردنية واللبنانية، من "عنبر"تشيخوف، إلى"خادمات" جان جان جينيه، إلى "ماكبث"و"هاملت" اللتين اقتبسهما بنفسه عن شكسبير، إلى "الآنسة جوليا" لسترندبرغ. ويرى الدكتور رياض عصمت أنه إذا ما أردنا الحديث عن التبعية في التجريب، فإن الملهم الأوربي الأكثر حضوراً هو برتولد برشت. لم يكن الشكل الفني وحده عند برشت هو الذي غزا فكرياً بلاد العرب، فأثر بالتغريب على مؤلفيها ومخرجيها. لو كان ذلك وحده ما حصل لكان أمراً جيداً، لأن برشت أحد أهم الأسماء التي أعادت بناء وتطوير المسرح في أواسط القرن العشرين. ولكن ما حدث هو الاقتداء ببرشت حتى مضموناً، في حين أنه كان وليد حقبة معينة وبقعة معينة من العالم، فقد التزم بالشيوعية لمواجهة صعود النازية ومناوأتها، عبر مسرحيات، مثل "أوروتورو أوي" و"الأم"و"دائرة الطباشير القوقازية". ولأن رياض عصمت يعتقد أن المسرح كلٌّ لا يتجزأ فقد تحدث حلّل ومحّص في كتابه تجارب عدد من أبرز المسرحيين العالميين مثل:شكسبير، هنريك إبسن، يوجين أونيل، تنيسي وليامز، آرثر ميلر، فرانك فيديكند رائد المدرسة التعبيرية وغيرهم كثير. ويرى عصمت أن مسرحية "زجاج مهشم" كانت عودة موفقة لآرثر ميلر في التسيعينيات إلى الصدارة مسرحياً، وموضوعه هذه المرة يعيدنا إلى اضطهاد اليهود الذي تطرق إليه في "حادثة في فيشي" في الستينات. لكنه يعالجه هذه المرة من وجهة نظر مختلفة، إذ تتمحور المسرحية حول امرأة يهودية أمريكية تصبح مقعدة دون سبب فيزيولوجي واضح، ولكننا نكتشف بالتدريج أن مصابها الصحي سببه خوف نفسي مما كانت تقرأ عنه من اضطهاد لليهود، حتى باتت تخشى أن تصيب عدوى الظاهرة المجتمع الأمريكي. ومع الأسف لم يكتب أرثر ميلر مسرحياً عن اضطهاد مماثل بشع للفلسطينيين على أيدي الصهاينة في فلسطين، التي بنيت على أنقاض المنازل الفلسطينية والحق العربي. لذلك لم نر تحليل مترجم المسرحية إلى العربية، الشاعر والمسرحي الراحل ممدوح عدوان، صحيحاً. بل جهد في مقدمته كي يلوي عنق غاية ميلر لتناسب الواقع العربي الراهن."زجاج مهشم"، ببساطة وصراحة، ليست مسرحية نقد ذاتي ضد اليهود، وإنما هي مسرحية نفسانية متقنة الحبكة ومتعاطفة مع قلق اليهود إزاء احتمال تعرضهم لعداء ضد السامية في المجتمع الأمريكي، أسوة بما حدث في ألمانيا الهتلرية. وهذا ماظهر واضحاً من خلال الفيلم الذي أخرجه "ديفيد ثاكر" لصالح تلفزيون"بي.بي.سي"، ولعبت دور البطولة بصورة غاية في الرهافة والحساسية مارغوت لسستر. وهو أمر في حد ذاته يرفع العبء عنا، فنحن العرب لم نضطهد أحداً، ولانعاني من شعور بالذنب أو عقدة نفسية، بل نحن من أصبح عرضة للخوف والظلم والعدوان دون ذنب سوى هويتنا العربية، وانتمائنا لهذه الأرض، مهد الحضارات والأديان المقدسة. ويتحدث الدكتور رياض عصمت عن عدد من المسرحيين العرب، معتبراً مسرحية "الأيام المخمورة" للمسرحي السوري سعد الله ونوس نموذجاً على سمات المرحلة الأرقى غنى وتنوعاً، دون أن يغفل الفتح الجديد في هدم المسرح في "حفلة سمر من أجل 5حزيران"، ومسرح الأمثولة الشعبية في" مغامرة رأس المملوك جابر"و"الملك هو الملك". وها هو ونوس يستخدم المسرح-داخل- المسرح في "الأيام المخمورة، ويلجأ إلى شخصية"الأراجوز"، ويقدم علاقة غير شرعية، ويمس أشد الأمور الاجتماعية حساسية، في حملة ضارية قاتمة الرؤيا على كل ما يعتبر فساداً في الحياة، ودفاعاً محموماً عما يعتبره حقاً للبشر بغض النظر عن الأعراف والتقاليد. والمسرحية مركبة بفنية عالية المستوى وطموحة. ولكن السؤال يبقى: ألا يغامر ونوس بذلك في الابتعاد عن تحقيق طموحه في التواصل مع الجمهور الشعبي العريض؟ ألا يتعارض نقده الضاري للدين وللأخلاق المألوفة مع تطلعات ذلك الجمهور، حيث يغامر بأن ينأى عنه، ويتوجه إلى النخبة؟ وهل تنسجم هذه المسرحية بالذات- وربما سواها من مسرحيات هذه المرحلة- مع مقولته الشهيرة"نحن محكومون بالأمل"؟ يعتقد رياض عصمت أن ونوس إنما كان يتحدث عن أمل مسرحي محض، وأن رؤياه المسرحية بلغت في هذه الحقبة قمة السلبية والتشاؤم، وليس في ذلك غضاضة، بل لعل ذلك هو السمة الأفضل لأبرز كتاب التراجيديا في أواخر حياتهم. ويتحفظ رياض عصمت فكريا على عموم أعمال ونوس بسبب موقفه من الدين الإسلامي، وقد يكون هذا فات الجمهور العربي أن يدقق في موقف سعد الله ونوس هذا، والذي ظهرت بواكيره في تهجمه على الشيخ الشامي الذي وقف محرضاً ضد أبي خليل القباني، وتسبب في إحراق مسرحه وهجرته إلى مصر. وينسى ونوس أو يتناسى أن منع مسرح القباني ربما جاء نتيجة كون مسرحياته أداة للتوعية القومية السياسية، وباللغة العربية، في وقت كانت سورية تخضع فيه للاحتلال العثماني. إن ما يقدمه مؤلف هذا الكتاب بين دفتيه يعد مهماً جداً، سواء من ناحية تشريح حالتي المسرح العربي والعالمي، ودراستهما بطريقة تقترب كثيراً من الحيادية، أو من ناحية فائدته لطلاب المسرح، لأنه يأتي من شخص خبر المسرح لعقود أربعة، كمؤلف، وناقد، ومخرج مسرحي.
الثورة- محمد الحوراني