النظام الإقتصادي في المجتمع الإسلامي
يختلف الإسلام عن الديانات الأخرى بدخوله في العديد من التفاصيل الحياتية والوجود المكثف لفكرة الشريعة لدى المسلمين من حيث انها مجموعة متشابكة ومتكاملة من القوانين التي تعمل على تنظيم حياة الفرد المسلم، وتبدو هذه الصورة أكثر تحديدا في الجوانب الشرعية التي تتعلق بالمعاملات وبالحقوق والواجبات التي يتعين على أعضاء المجتمع الإسلامي اتباعها· وبهذا أخذت أهمية السنة النبوية كمصدر متمم للتشريع تضاف إليه وبصورة متواصلة الانجازات الاجتهادية التي تقرر الوجهة الشرعية التي تتسق مع النصوص الصحيحة وتحقق مصالح المجتمع الإسلامي ضمن المعادلة المركزية للشريعة الإسلامية التي يمكن أن تتلخص في مفهوم <لا ضرر ولا ضرار>·
و لعل الاقتصاد الإسلامي في صورته الأساسية المستقاة من نصوص الكتاب والسنة يعد الصورة الأولى لتأسيس الفكر الاقتصادي الاسلامي الكلي الذي يسعى لتحقيق التوازن بين المصالح الشخصية وتجلياتها النابعة من طبيعة الانسان وحبه للتملك والسيطرة وتعظيم مكاسبه الشخصية، والمصالح الاجتماعية التي تتطلع لتحقيق قفزة في الامكانيات المتاحة لتحسين المستوى العام للحياة في المجتمع الإسلامي·
إن المفهوم الاقتصادي الاسلامي بالأصل هو الإباحة التجارية ما لم يرد نص عكس ذلك، وتلك هي القاعدة المركزية للاقتصاد الإسلامي، الذي يعد أكثر جوانب التشريع الإسلامي تعاملا مع فكرة العلمنة بمفهوميها السلبي والإيجابي، وهو كذلك أكثر جوانب الشريعة حيوية من حيث تواصل الإسهامات الفقهية لبناء صورة عملية ومتفاعلة مع التقدم للإقتصاد الإسلامي، ومنذ اللحظة الأولى عني المسلمون بتحقيق حالة من التوازن الإجتماعي في مجتمع غلبت عليه سمتين:
الأولى: وجود كبير للتبادل التجاري ألقى بآثاره على الحضارة العربية في مرحلة ما قبل الإسلام، وأسس للعديد من الممارسات الدينية والاجتماعية، ولعل فكرة التاريخ العربي القديم والذي عمد للتقويم القمري لضمان استمرارية موسم الحج ومواسم التجارة على مدار اشهر السنة لتغطي ظروفا مناخية موءاتية، توضح تلك المركزية للذهنية التجارية العربية، والتي أصبحت أيضا واحدة من الأولويات التي يجب أن يتعامل معها الإسلام وأن ينظم أثرها في المجتمع الإسلامي·
الثانية: سيادة نظام اقتصادي يفتقر للعدالة والمساواة ويركز الثروة وأدواتها في أيدي قلة من التجار والقيادات القبلية، ويبرر حالات الفوضى الاقتصادية المرتبطة بفكرة الغزو وبما يؤثر سلبا على وجهة نظر القبيلة في اختيار أدواتها الانتاجية، ويجعلها تعزف عن إرساء بنية اقتصادية طويلة الأجل ومستقرة وواسعة·
وفي ظل هاتين الحقيقتين انتشر الإسلام في المعمورة، تحت قيادة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، لارساء العدل في الجانب الاقتصادي مع ايجاد حقل خصب لإصلاح الحياة الجاهلية وتأسيس المجتمع الإسلامي، فالرسول صلى الله عليه وسلم الذي عمل في الخطوط التجارية القرشية لسنوات، تمكن من رصد العيوب الجوهرية التي تحول دون تحقيق العدالة في المجتمع العربي القديم، وقد عني مبكرا بتأسيس أخلاقيات اقتصادية ايجابية تستطيع أن تضع الظاهرة الاقتصادية في بعدها الديني·
فعلى سبيل المثال يقدم الإسلام رؤية متقدمة بمقاييس عصره، وحتى العصور التالية، وفي مفهوم الملكية الفردية، يرى الإسلام إن الله عز وجل هو مصدر الملكية ومانحها وبالتالي فإن الانسان مستأمن على تحقيق الرشد في التعامل مع الملكية واستغلالها وصيانتها، دون أن تصبح الملكية في حد ذاتها وسيلة للإخلال بوضع الآخرين أو التمايز عليهم، وتتضح فكرة ذلك في سورة الكهف في المحاورة بين صاحبي الجنتين <وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا، وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا، وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا، قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا>·
وكذلك فإن الملكية أيضا تخضع لواجبات تكبح ممارساتها السلبية في المجتمع، وهي إلى جانب الواجبات الاقتصادية مثل الزكاة والصدقات والمبادرة الفردية أصبحت ملكية مشتركة وثروة اجتماعية لا يتوجب حجبها عن عموم المسلمين وتلك مسألة الشراكة في المياه والطاقة والتي تعد موارد أساسية بمقياس عصر التأسيس الإسلامي، والتي كانت تمثل ضرورة لتشغيل قطاعات اقتصادية حيوية في المجتمع الاسلامي الأول، كالرعي والزراعة وصناعة الحديد، فذلك اعطى قيمة مضافة للعمل الفردي وتكافل الدولة لتوفير أدوات الانتاج دون قيود مشروطة·
كما يأمر الاسلام بالتزام الوفاء لمن يباشر النشاط الاقتصادي فيحض القرآن الكريم على حسن الكيل والميزان ؛ وما كان اهتمام القرآن بمثل هذا الامر إلا دليلا على خطورته على العلاقات الانسانية والروابط الاقتصادية وحرصا على ان يقوم النشاط الاقتصادى على اسس سليمة تدعم المجتمع قال تعالى < وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم ذلك خير وأحسن تأويلا>،
وهكذا يقف الإسلام بمبادئه وتعاليمه حارسا للمال، لأنه عصب الحياة، يدفع عنه المستهترين والغاصبين والذين لا يقدرنه حق قدره، ويضعونه في غير مواضعه، وكذلك الذين يستعبدهم المال فيطغيهم ويحملهم على انتهاك المحرمات واتيان المنكرات ليظل المال وسيلة للحياة، ووسيلة لخير الانسان وسعادته، وبقوله تعالى: <ولا تؤتوا السفهاء أموالكم>·
وبعد، فتلك أهم دعائم المال والاقتصاد في الإسلام، ويبدو منها ان النظام الاقتصادي الإسلامي نظام فريد في نوعه، عريق في تاريخه، اصيل في ذاته، مستقل في تعاليمه ووحدة نسيجه، وبذلك نظم القرآن والسنة هذا النظام الاقتصادي وضبط مفاهيمه في المجتمع الاسلامي ليصبح مشروعاً انمائياً عادلاً ودستوراً للحياة عبر العصور