منتدى التجديد
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.


منتدى متجدد قادم بقوة انشاء الله
 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 المسـرح والسحـر

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
Admin
Admin



عدد المساهمات : 106
تاريخ التسجيل : 01/09/2010

المسـرح والسحـر  Empty
مُساهمةموضوع: المسـرح والسحـر    المسـرح والسحـر  I_icon_minitimeالسبت سبتمبر 04, 2010 4:01 pm

المسـرح والسحـر


قد يوحي التأمل الأولي في عالمي المسرح والسحر باستحالة إيجاد خيط رابط أو علاقة محتملة بينهما. فالمسرح فن يندرج في إطار الحقل الإنساني، والسحر ممارسة تتموقع في سياق الحقل الشيطاني. وهذا التموقع تشير إليه الدلالة اللغوية نفسها لكلمة «سحر»، حيث نجد في «لسان العرب» لابن منظور «السحر عملٌ تُقُرِّبَ فيهِ إلى الشيطان وبمعونة منه». (1 - 348).

هذا التمايز تزكيه طبيعة المسرح كفن يقوم على أساس العلانية، وينبني وجوده واستمراريته عليها خصوصا وأننا لا يمكن أن نتصور مسرحا حقيقيا إلا في اقترانه بجمهور بالإضافة إلى أن كلمة «عرض» نفسها تتضمن هذا الإيحاء بالعلانية. هذه الخاصية تجعل من المسرح نقيضا للسحر خصوصا وأن هذا الأخير لا يحيى إلا في السريَّة وينخرط ضمن ما يسمى بالممارسة الخفية «L’occulte».

ولعل ما يعمق المسافة بين الممارستين هو كون المسرح ظاهرة إبداعية عادية يمكن أن تصبح - عن طريق الاكتساب - في متناول كافة الناس، في حين يبقى السحر ظاهرة فوق عادية أو فوق طبيعية تفترض تحقق خلفية أساسية لدى ممارسيها، تتمثل في الهبة «Don» الربانية أو الشيطانية، هي التي تسمح لهم بالتدخل في اللحظة التي تعبر فيها كل أشكال تأويل الظواهر وأنماط تفسيرها المنطقية، عن إفلاسها. ولعل هذا ما يجعل للسحر منطقا خاصا به لا يمكن فهمه إلا بالنظر إليه في ذاته بعيدا عن أي منطلق علمي أو ديني.

كل هذه العناصر توحي، إذن، بلا جدوى البحث عن خيوط واصلة بين المسرح والسحر. لكن الحقيقة غير ذلك. فتاريخ المسرح قد عرف نوعا من المسرح يقوم على أساس السحر، ويتجلى ذلك في ما يسمى بمسرحية الجن «Féerie»، وهي: «مسرحية تقوم على مؤثرات السحر والعجيب والفرجوي، وتدرج شخصيات متخيلة موهوبة بقدرات فوق طبيعية (جن، غول، عنصر طبيعي، مخلوق أسطوري» (2-167). بالإضافة إلى هذا التقارب بين المسرح والسحر، الذي تعمق على مستوى النوع المسرحي، عرف تاريخ المسرح أيضا اتجاها مسرحيا حاول أن ينظر إلى الظاهرة المسرحية بمنظور سحري، وهو الاتجاه الذي سار فيه أنطونان أرطو في تنظيره لمسرح القسوة، هذا المسرح الذي يعلن تمرده على الطابع السيكولوجي للمسرح الغربي ويعبر عن رغبته في تحقيق الطابع الميتافيزيقي للمسرح على غرار الشرقيين. هذا الطابع هو الذي جعل أرطو ينظر إلى العرض باعتباره ضربا من السحر. يقول: «من زاوية الاستعمال السحري هاته وزاوية السحر، ينبغي اعتبار العرض ليس كانعكاس لنص مكتوب ولكل ذلك الإسقاط للمضاعفات الفيزيقية المنبعث من المكتوب، وإنما كإسقاط مشتعل لكل ما يمكن أن يستخرج من النتائج الموضوعية لحركة ما، لكلمة، لصوت، لموسيقى وللتأليف فيما بينها. هذا الإسقاط الحي لا يمكن أن يتم إلا على الخشبة ونتائجه توجد أمام الخشبة وفوقها. أما الموقف الذي يستعمل كلمات مكتوبة فقط فليس له موقع وعليه أن يترك المكان لمتخصصين في هذا السحر الموضوعي والمتحرك» (6-111).

يمكن علاوة على هذا، الغوص في ما هو أعمق للكشف عن هذه العلاقة بين المسرح والسحر، وذلك بالاستناد إلى ما طرحه نيتشه في كتابه الشهير «أصل التراجيديا» حيث ميز في أصل الفن بين الأبولوني «L'apollinien» والديونيزي «Le dyonisiaque». فالأول له علاقة بالفن التشكيلي، والثاني بالفن الموسيقي: «تظهر التصورات التشكيلية في عصور الحلم وتخلق فنا مليئا بالعظمة والصفاء. في حين يظهر الفن الديونيزي ضمن حالات سكر وهيجان سببها الكحول أو مثيرات أخرى. فهو حاشد وعنيف. حالات السكر الديونيزثي هاته تكون مصحوبة بالموسيقى، ولها تأثيرات نفسية متناقضة: في البداية حبور مجنون ثم حزنٌ لا حدَّ له. الفكر الأبولوني تتحكم فيه مقولات فضائية، والفكر الديونيزي تتحكم فيه مقولات زمنية. الأول يحبذ الثابت، النظام، الخضوع للقواعد، والآخر يفضل المتحرك، غير المنظم والمتغير.» (4-242).

إذا كان هذا التمييز هو أصل الانقسام الذي نجده بين أنواع درامية وهو أساس التفريق بين التراجيديا وغيرها، فإن تمظهراته تتجاوز هذا الإطار الفني الصرف لتصبح أساسا لأشياء أخرى كالسحر مثلا. من هذه الزاوية يرى أحد الباحثين في مجال السحر أن «الساحرة شخصية من نوع ديونيزي لأسباب متعددة وأولها علاقاتها بالإيقاع، والموسيقى والرقصات العنيفة والهائجة. إنها تكون، شأنها شأن ديونيزوس والغول القروسطي، موضوعا للسخرية، وتثير الضحك، لكنها تشيع أحيانا الذعر والرعب» (4-242).

هذه المعطيات الأولية من شأنها أن تدفعنا إلى تأمل أعمق في طبيعة العلاقة بين المسرح والسحر، وتبين أن الأسس التي ينبنيان عليها والتصورات والتمثلات التي يقدمانها عن العالم تجعل منهما وجهين لشيء واحد. هذا التطابق الذي نراهن عليه منذ الآن هو الذي يدفعنا إلى صياغة الفرضية الأساسية التي ستشكل حجر الزاوية في هذه الدراسة، والتي نعتبر من خلالها أن المسرح ممارسة حداثية للسحر والسحر ممارسة تقليدية للمسرح. نقصد بذلك أن كل العناصر التي يقوم عليها السحر، بخلفياته وطقوسه ولغاته، موجودة في المسرح. إلا أن هذا الفن يخلق شروطا خاصة ومتميزة لممارستها وتحقيقها أملتها صيرورة الفعل الإنساني في تطوره وتجدده وانفتاحه على العلم والتقنية. وبالمقابل، نجد كل مظاهر التمسرح في السحر، لكن ممارسته تبقى تقليدية في حدود ما هو تقليدي.

لتوضيح رؤيتنا، نقترح تأمل موضوع المسرح والسحر من خلال ثلاث زوايا أساسية: زاوية الفاعل، أي المسرحي والساحر، وزاوية الفعل، أي الطقس المسرحي والطقس السحري، ثم زاوية مكونات الفعل وأدواته، أو بعبارة أخرى زاوية لغة المسرح ولغة السحر.

1 - المسـرحي ساحـر شـرعي

لقد اتخذت العديد من الثقافات موقفا معاديا للسحر. فالمسيحية أنكرت هذه الممارسة، والإسلام حرَّمَها وأوروبا القرنين XIII وXVII الميلاديين مضت إلى حد شن مطاردة كبرى للسحرة تمَّ من خلالها تقتيل عشرات الآلاف من الساحرات وتعذيبهن وإحراقهن بتزكية من الكنيسة وفي إطار محاكم التفتيش التي انتشرت في مجموع البلدان الأوروبية خلال هذه الحقبة. وفي هذا السياق، لقيت في بلاد الباسك Basque حوالي أربعين ساحرة مصير الشنق والإحراق خلال الحملة الخاطفة التي قادها بونيفاس دولاس Boniface de Lasse على ساحرات هذا الإقليم (5-27). وواضح أن هذا الموقف من السحرة يجد تفسيره في الوضعية غير الطبيعية للساحر باعتباره كائنا يملك قدرة فوق عادية تجعله خطيرا على مجتمعه الذي ينظر، بالتالي، إلى ممارسته باعتبارها عملا غير شرعي.

فالمجتمعات الحديثة التي تؤسس نزوعها الديمقراطي على مفهوم المجتمع المدني لا تعترف بالساحر ولا تقدم، بالتالي، بطاقة هوية تتضمن مثل هذا الوصف. وضع شبيه بهذا يعيشه المسرحي أيضا. فمادامت ممارسته المسرحية «فنا خطيرا، فإن الرقابـة المباشرة أو غير المباشـرة، الاقتصاديـة أو البوليسية - التي تتخـذ أحيانـا الشكـل المنحـرف للـرقابـة الذاتيـة خصوصا - تضعـه دائمـا نصب أعينهـا.» (7-14).

إلا أن الإختلاف الموجود بين المسرحي والساحر هو أن الأول ليس في حاجة إلى إثبات شرعيته. فسحره مشروع لأنه يقدم إبداعا مليئا بالمتعة والفائدة، في حين نجد الساحر يخوض في ممارسات غالبا ما تستهدف ضحية ما. وهذا الأثر السَّيء الذي يسبب الألم والمعاناة للآخرين هو الذي يجعل الساحر بدون شرعية. علاوة على هذا، فشرعية المسرحي يضمنها الوجدان والذاكرة الجماعية أولا، وتزكيها المؤسسة السياسية والثقافية ثانيا، من خلال اعترافها بالمسرحي كمواطن له الحق في الانتماء إلى هيئة نقابية للفنانين، ويناضل من أجل حقوقه المشروعة، ويقدم إنتاجاته في المؤسسات التي تشرف عليها الدولة.

لكن المسرحي - رغم توفره على هذه الشرعية الاجتماعية والمؤسسية - يعيش وضعا سيكولوجيا خاصا. هذا الوضع يمكن فهمه بالنظر إلى ما يتملكه هذا الكائن من قدرات وطاقات فكرية وإبداعية، وما تفتحه أمامه هذه الطاقات من آفاق للبحث عن معرفة متميزة بالمجال الذي يبدع فيه. واستثمار هذين العنصرين، أي الطاقة الفطرية والمعرفة المكتسبة بشكل معين، يجعل المسرحي باعتباره ساحرا يحتل أحد الموقعين في المجتمع. فإما أن يكون بمثابة ملقٍ للسحر «Jeteur de sorts» أو مزيل له «Désenvoûteur». فالوضعية الأولى قد يعيشها بشكل إرادي واختياري حينما ينخرط في سياق إيديولوجي موجه يدفعه إلى إنتاج مسرح قائم على الإيهام وتحقيق الاندماج من أجل تثبيت وضعية المتلقي وشل حركته الفكرية والنقدية وعزله جسديا ووجدانيا بحيث تصبح وضعيته شبيهة إلى حد كبير بوضعية المسحور. وقد يعيش المسرحي هذه الوضعية بشكل لا إرادي بحيث يصبح مسرحه شبيها بعمل ما يسمى بـ«الساحر اللاإرادي Sorcier malgré lui» خصوصا وأن هذا الفن يمتلك من القوة والفعالية التعبيرية والتأثير النفسي ما يجعله قابلا لأن ينقلب ويتحول ويتغير هدفه بسبب عدم التحكم في قوته وفعاليته وتاثيره، أو بسبب غياب خلفية واضحة معرفيا وإيديولوجيا، تساعد على توجيه السحر المسرحي بشكل ملائم وتحقق له وظيفته الحقيقية.

إن وضعية المسرحي باعتباره ملقيا للسحر تحول المسرح من فن يشتغل على النفسية الجماعية إلى سحر حقيقي يشتغل على أفراد منعزلين وجدانيا، مندمجين، ومتطهرين من عاطفتي الخوف والشفقة في نهاية العرض السحري. هذا التطابق بين المسرح والسحر تزكيه خاصيتان أساسيتان: «الأولى تتمثل في كون الخطاب السحري خطابا نحو الشخص وممارسته تتعلق بقدر فردي، والثانية في كون النفسية الفردية هي مكان الفعالية السحرية المفضل.» (8-8/9).

إلا أن وضعية المسرحي كمزيل للسحر تختلف عما سبق من حيث المنطلق أولا: فهو مقتنع بأن الواقع يسحر الفرد ببديهياته، بمظاهره الخداعة، بأساطيره، لذا ينبغي أن يقوم المسرح بوظيفة إزالة السحر باستعمال الوسائل الممكنة جماليا، لغويا وجسديا، لتحرير الأفراد من سحر الواقع، ومن وضعية «الموت الاجتماعي»، ودفعهم إلى الانخراط في «حياة رمزية» جديدة بواسطة التغريب وتحقيق المسافة الجمالية اللازمة للتفكير والنقد والاحتجاج.

1 - 1 - لغـز المسـرحي: السلطـة والمعرفـة:

يعيش المسرحي وضعا متميزا عن الإنسان العادي، يتمثل في امتلاكه لطاقة ليست في متناول الجميع، ألا وهي الإلهام أو الموهبة. هذه الأخيرة لا غنى عنها لقيام تجربة إبداعية أصيلة، ولا قيمة لها، بالمقابل، وحدها إذا لم تُصْقَل وتُدَعَّم بمعرفة جمالية أساسية بمجال المسرح وبمختلف مكوناته ولغاته وتجاربه واتجاهاته. وإذا كان هذا العنصر المعرفي يضمن وضعا مريحا للمسرحي بشكل يجعله يحس بصلابة الدعامة التي تنبني عليها تجربته، وينال، بالتالي، الاعتراف اللازم له داخل مجتمعه، فإن هذا العنصر المعرفي هو الذي يساعد المجتمع على التمييز بين المسرحي الأصيل وبين المهرج بحيث يصبح الأول معادلا للساحر الأصيل والثاني معادلا للمشعوذ، وشتان بين الوضعين في ميزان المجتمع. يقول دومينيك كامو Dominique Camus في هذا الإطار: «كل السحرة يصفون المشعوذ بكونه ذلك الشيطان الذي ينمق الكلام بواسطة الإشهار لاكتساب زبائن لا يعرفهم، متجددين باستمرار بفضل النداء الموجه في الجرائد. هؤلاء الزبائن غير قارين، مادام غير المقتنعين لن يعودوا مرة أخرى. إلا أن الأمر يختلف بالنسبة لزبائن «الساحر الأصيل». فهم قارُّون، أوفياء، يتكاثرون من تلقاء أنفسهم عن طريق قناة من الفم إلى الأذن، التي تعبر عن الاقتناع وعن النتائج الإيجابية للقدرة الممارسة» (3-63). باستقرائنا لوضعية المسرحيين في ضوء هذه المواضعات، لن يصعب علينا استكشاف الفرق بين الذين يمارسون السحر المسرحي الأصيل، وبين الذين يمارسون التدجيل والشعوذة، ونتمكن بالتالي، من تحديد المكانة التي يحتلها كل واحد، حسب طبيعة ممارسته في الوسط الثقافي والاجتماعي.

هذه المكانة التي لا ترتهن بالعنصر المعرفي وحده، ولكنها ترتبط أيضا بعنصر هام هو العنصر الإلهامي الذي يجعل المسرحي يمتلك لغزا أو سرا خفيا شبيها بلغز الساحر «Mystère du sorcier». فهذا الأخير «ينبني على خاصيتين في قدرة الساحر هما: السر والهبة. فالسر يتكون من طقس حركي أساسا، ينضاف إليه في الغالب، سرد مقولات وتعازيم (...) عنصر ثان لابد منه أسميه، لعدم توفر الأفضل، بالهبة. فهي التي تسمح بالانتقال من موضعة كل عنصر في المُرْبِكَة «Puzzle» التي تمثلها قضية سحرية ما، إلى منظورها الكلي، وتتيح للساحر - في كل قضية جديدة - إمكانية خلق مربكة جديدة عليه، بالنظر إلى مجموع الأسرار التي يمتلكها، أن يربحها. فالساحر ينتقل بفضل الهبة من المفرد إلى المركب بحيث يلعب بخياله وحرياته في الارتجال والتحكم الذاتي التي تمنحها له هذه الهبة.» (3-37/38).

إن السر الخفي للمسرحي يتقاطع، إذن، مع لغز الساحر من خلال ما تشير إليه العلاقة بين الإلهام والهبة من تشابه في عناصر وآليات الاشتغال وخصوصا منها القدرات الثلاث: الخيال، الارتجال، والتحكم - الذاتي.

فالخيال يساعد على خلق عوالم في إبداع المسرحي تحرر الإنسان من ابتذال الواقع وتساعده على ارتياد آفاق مفتوحة على الأحلام والاستيهامات ومختلف الاحتمالات، كما أن الارتجال يعمل على خلق اللامنتظر واستثمار كل الطاقات التعبيرية المحتملة لغويا وجسديا. ولعل استغلال المسرحي لهذه القدرات انطلاقا من منظور جمالي وإيديولوجي يتحكم فيه ذاتيا ويوجهه بشكل جيد هو الذي يجعلنا نتحدث عن لغز في ممارسة المسرحي.

1 - 2 - الخصائــص السيكوسوسيولوجية للمسرحي:

ينبني لغز الساحر على قدرته على خلق علاقات مع كائنات غير مرئية واشتغاله في جو من الغموض والأسرار، معتمدا بالأساس، على الهبة الربانية أو الشيطانية التي تميزه عن الإنسان العادي. هذه الوضعية هي التي جعلت البعض (الخطاب الطبي خصوصا) ينظر إلى هذا الإنسان باعتباره يعيش وضعا سيكولوجيا غير عاد. لقد اعتُبِرَ مريضا نفسيا «Psychopathe» ومولوعا بالكذب «Mythomane» ومنحطا عقليا «Dégénéré» (3-34).

ولهذا الوضع السيكولوجي علاقة واضحة وتأثيرا مباشرا على المظهر الاجتماعي للساحر وعلى صلته بجماعته بحيث يصبح الإشكال في كيفية الاعتراف بالقدرة الخارقة لشخص على حل معضلات مستعصية مع العلم أنه يصنف من قبل الطب ككائن مريض نفسيا وغير سوي.

إن وضعية مفارقة شبيهة يعيشها المسرحي بشكل أكثر حدة، خصوصا وأن طبيعة عمله - على خلاف الساحر - تجعله في مواجهة مع عشيرته، وتجعله عرضة لردود أفعال آنية مباشرة. فلا يمكن للمسرحي أن يخفف من حدة ردود الأفعال كأن يطلب من متلقيه «التسليم». فمثل هذا الأمر لا ينفذه سوى زبون مدمَّرٌ مهزوم من زبائن الساحر.

إن التحكم في التجربة الإبداعية جماليا وإيديولوجيا وحده الكفيل بضمان مظهر اجتماعي ملائم، يتجاوز الأحكام المسبقة عن شخصية المسرحي التي ترى فيه إنسانا غير جدِّي تنبني حياته على اللعب، وغير أخلاقي لأنه يشهر عيوب الناس، وعبثي لأنه يخلق لهم مصائر وأقدارا بطريقته الخاصة.

يتأسس الميثاق العلائقي بين الساحر ومجتمعه على الاعتراف. ينبني هذا الاعتراف على قاعدة أساسية هي الأقدمية الزمنية للممارسة السحرية. فكلما كان الساحر قديما كلما كان أصيلا، وكلما كانت له قدرة تجعل تدخلاته ذات نجاعة وفعالية كبيرة. إذا نظرنا إلى المسرحي من هذه الزاوية هل يمكن أن نقول إن مسرحيا مارس عمله فترة زمنية أطول من فترة ممارسة مسرحي آخر يمكن أن يصبح أكثر أصالة وأكثر فعالية وينال، بالتالي، اعتراف مجتمعه؟ وبعبارة أخرى، هل العبرة في الإبداع - كما هو الشأن في السحر - بالزمن أم بأشياء أخرى؟

إن عالم الإبداع المسرحي مليء بالمفارقات في هذا الجانب؛ البعض منها يرتبط بسيرورة الإنتاج نفسها التي لا ترتهن بعنصر الزمن ضرورة، بقدر ما تتحكم فيها القدرة على خلق التفاعل اللازم بين العنصرين الإلهامي الفطري والمعرفي المكتسب. ويرتبط البعض الآخر بسيرورة التلقي وبشروطه الجمالية والنفسية. ولنا في صيغة «الجمهور عاوز كِدَه» مثالا صارخا على ارتهان آلية الاعتراف بشروط التلقي. مما يدفع إلى القول إن المظهر السيكوسوسيولوجي للمسرحي يرتبط بطبيعة الممارسة المسرحية التي تقوم على العلنية والآنية والمباشرة، بقدر ما يرتبط بصيرورة المجتمع وتحول قيمه الفكرية والجمالية التي يجسدها بشكل واضح الجمهور المسرحي.

1 - 3 - بريشت يبطل سحـر أرسطـو:

ينتصب أرسطو كواحد من عمالقة العلم والفلسفة الذين لا يمكن لأحد المجازفة بوصفهم بنعوت أخرى. لكننا، في هذا السياق، لا نتردد في القول إن أرسطو يبدو لنا ساحرا، بل أكثر من ذلك إنه تحول إلى مدرسة في السحر دستورها كتابه الشهير «فن الشعر». ولعل المتأمل في العناصر الأساسية المكونة للفعل المسرحي الأرسطي - من زاوية السحر - يكتشف أوجه التطابق بين وضعية المندمج في المسرح الدرامي، ووضعية المسحور، وبين وظيفة الإيهام بالواقع الملازم للفعل المسرحي والمتمثلة في التطهير من عاطفتي الخوف والشفقة ووظيفة الطابع الغريب المميز للطقس السحري التي تستهدف إثارة الخوف لدى الزبون لتعميق اعتقاده في السحر. والفرق الوحيد بين سحر المسرح الأرسطي وسحر السحر هو أن هذا الأخير يستلزم خلفية أساسية تتمثل في الإعتقاد أو الإيمان بفعالية السحر وقدرته على حل ما عجزت على حله أنماط التأويل وأشكال الفعل الأخرى. في هذا الصدد، لا بد من التذكير بأن «لا وجود لسحر خارج الإتفاق بين الأشخاص المشاركين فيه حول نقطتين أساسيتين هما: الإعتقاد في كون بعض الأشخاص يمتلكون قدرة ما، والإعتقاد في وجود قوة سحرية يشغلها هؤلاء الأشخاص، أي السحرة» (3-65).

فإذا تأملنا جيدا وضعية المندمج لاحظنا أنه يتحول، بفعل الإيهام، إلى كائن فاقد لسيطرته على قدراته العقلية، يعيش بوجدانه ومشاعره وينفعل أكثر مما يفعل. وهذه الحالة تجعله قارة معزولة حتى وهو وسط حشد هائل من الناس. إنه يعيش فرديته ككينونة ينوء بثقلها. هذه الأحوال النفسية تنطبق إلى حد كبير على المسحور وتترجم الكثير من أعراض السحر البادية عليه خصوصا وأن المسحور - حسب التعريف - هو «شخص قطع كل تبادل كلامي مع جزء مهم من وسطه ومع قيم هذا الوسط المهيمِنَة. لقد أصبح معزولا لأن تجربته ووضعيته أصبحتا مرفوضتين.» (3-84).

وإذا كان غياب التواصل والعزلة عن الوسط يشكلان أهم أعراض السحر، فإن هاتين الخاصيتين تظهران بشكل جلي على متفرج مندمج ينظر إلى الأفعال التي تجري أمامه على خشبة المسرح باعتبارها أفعالا واقعية.

ويشكل التطهير نقطة تقاطع أخرى بين المسرح الأرسطي وبين السحر. فالمتفرج والزبون كلاهما مستهدفان من خلال إثارة عاطفتي الخوف والشفقة عند الأول، في المسرح، وإثارة الخوف عند الثاني في السحر. إلا أن الفرق بين التطهير المسرحي والتطهير السحري هو أن هذا الأخير لا يرتبط بالزبون وحده، وإنما يتحقق أيضا حتى بالنسبة للساحر نفسه. فبخصوص الزبون، سبقت الإشارة إلى أن السحر يشتغل عن طريق الغريب «Insolite». ولهذا الغريب «أثر يتمثل في إثارة الخوف لدى الزبون، هذا الخوف هو محرك السحر لأنه يعمل على تقوية الاعتقاد» (3-131). أما بالنسبة للساحر، فإن طقوس السحر تقتضي منه الاشتغال بنوع من الحذر واتخاذ الاحتياطات اللازمة لتحقيق ما يسمى بالوقاية السحرية حتى لا ينقلب سحره عليه، وتفاديا لما يسمى «الصدمة المرتدة Choc en retour». فإذا كان عليه أن «يقي نفسه قبل الفعل وأثناءه، فعليه عند الانتهاء أن يتطهر من هذا الفعل» (3-132/133)، إما عن طريق طقوس حركية (الاغتسال بالماء مثلا) أو كلامية (ترديد عبارات الشكر والامتنان).

كل هذه العناصر، إذن، تؤكد أن أرسطو في الوقت الذي كان يصوغ فيه دراما إيهامية تقوم على الاندماج وتستهدف التطهير، كان يرسم لنفسه صورة مُلقي السحر «Jeteur de sortilèges». هذا السحر الأرسطي لن يحد من تأثيره وفعاليته سوى المسرحي الألماني بريشت الذي استطاع صياغة جمالية مسرحية جعلته يتحول إلى مزيل للسحر «Désenvoûteur». وإزالة السحر الأرسطي تمَّت عن طريق تقويض دعائمه السيكولوجية بدءا من الإيهام والعمل على ضرب الاندماج والتركيز على آلية جديدة تسمى بالتغريب. هذه الآلية التي سمَحَت بإعادة النظر في الوظيفة التطهيرية للمسرح واستبدالها بالوظيفة التحريضية والتعليمية والنقدية. هذه المواقف كلها هي التي تجعلنا نقول: إن بريشت جاء كي يزيل سحر أرسطو.

2 - المسرح طقـس سحـري ساخـن:

يمكن التمييز في الطقوس، بشكل عام، بين نوعين: طقوس بادرة، ويمكن أن ندرج في إطارها اليوغا، مثلا، كممارسة جسدية روحانية تتم في جو من الصمت والاندماج والحركة المقننة والتركيز البارد، كما يمكن أن ندخل في هذا الضرب من الطقوس السحر أيضا. ثم طقوس ساخنة، أو حارة، كالجدبة التي تتميز بالحركة الدائمة والهيجان والعنف الجسدي. وهذا التمييز لا يمنع من إيجاد روابط بين نوعي الطقوس هذين تُتِيحُ النظر إلى السحر باعتباره جدبة باردة. فهو جدبة لأنه يقوم على أساس الاتصال بقوى وأرواح، وهو بارد لأن طقوسه تسلتزم الهدوء والصمت والفعل المضبوط والانعزال عن الآخرين.

باستحضار هذا التداخل، يمكن القول إن المسرح طقس سحري ساخن. فهو طقس سحري نظرا لاستحضاره كل آليات السحر بطريقته المتميزة، وسخونته متأتية من كونه يتأسس على الفعل المباشر والمشاركة الفعالة والحيوية لأطراف مختلفة يساهم كل منها بلغته ووسائله التعبيرية بشكل يجعلنا أمام نوع من «الفوضى المنظمة» حسب تعبير جاك ديريدا. فالمسرح طقس سحري فوضوي - منظم في آن واحد يشترط شروطا خاصة لممارسته، ويؤسس شعريته المتميزة ومنظوره التمثليلي الخاص للعام والإنسان.

2 - 1 - الطقـس المسرحـي: الزمـن والفضـاء:

يشترط في الممارسة السحرية، كي تكون فعالة، مراعاة شروط أساسية منها «شروط الزمن (أثناء اعتدال الربيع أو الخريف. وخلال المدار إن أمكن؛ الاشتغال في الفجر بالنسبة لمزيل السحر والمساء بالنسبة للساحر) والمكان (تفضيل ملتقيات الطريق، المقابر، الغرف المغلقة بإحكام) والطريقة (في علاقة مع المبادىء السحرية للعدوى والتجاور والتشابه)» (3-9). فالسحر باعتباره ممارسة منزاحة عن الأنشطة الإنسانية العادية التي تجري في وضح النهار، أصبح مقترنا بالأنشطة «الظلامية» التي تضمن له السرية والغموض والخفاء اللازم. ولهذا الاختيار الزمني الليلي - بالإضافة إلى وظيفته الإخفائية - وظيفة ترميزية تتمثل في كون «الليل، الوجه الآخر للنهار، هو الزمن الرمزي بامتياز لقلب مدار الأشياء» (3 - 126). إذا كان الليل هو الزمن الرمزي المفضل عند السحرة لتحقيق نزعتهم الانقلابية، ألا يوحي ظلام القاعة في المسرح وإطفاء أنوارها عند بداية العرض برغبة دفينة لدى المسرحيين لخلق هذا الزمن السحري الإنقلابي بطريقتهم الخاصة؟! ألا يمكن القول إن تأمل الفضاء المسرحي من هذه الزاوية السحرية يكشف عن مفارقة أساسية، إذ في الوقت الذي يدعو المسرح الناس لحضور طقس يتوخى من خلاله إضاءة جوانب من حياتهم وأفعالهم وأحاسيسهم يضعهم داخل فضاء مظلم يحولهم إلى جزر منعزلة صامتة باندهاش السحر العجيب الذي يجري أمامها.

إن للفضاء وطريقة التعامل معه أهمية بالغة سواء في الطقس المسرحي أو الطقس السحري. فالمعروف أن «أماكن فعل السحرة هي أماكن منعزلة عن أي نشاط مدنس» (3-130). وقد تمت الإشارة إلى بعضها كالمقابر والغرف المغلقة وملتقيات الطرق. شيء مثير حقا أن يكون السحر في عمقه «تمردا على المقدس» - كما يرى جان دوفينيو في «الظلال الجماعية» - ويشترط في نفس الوقت أماكن بعيدة عن المدنس لممارسته، وأن يكون المسرح، بالمقابل، في الأصل ممارسة مقدسة (لنتذكر ارتباطه باحتفالات الآلهة) لكنه لا يشترط هذا الطابع المقدس للمكان. فالمسرح فن مفتوح على كل الفضاءات، لهذا يقول باتريس بافيس Patrice Pavis: «يقيم المسرح في المكان الذي يبدو له جيدا، باحثا قبل كل شيء عن اتصال، أكثر قربا، مع مجموعة اجتماعية (...) فالمكان يحاط أحيانا باللغزية والشعرية اللتين تخصبان الفرجة التي تقدم فيه.» (2-224). هذه الحرية في التعامل مع المكان محدودة في السحر، وهذه المحدودية لها ما يبررها من الناحية التواصلية. فالمسرح يبحث عن جمهوره أينما كان، في حين يبقى السحر هو ذلك الملاذ الأخير الذي نبحث عنه عندما تضيق السبل الأخرى، لذا يمكن القول إن الزبائن هم الذين يبحثون عن الساحر أينما كان.

إن المسافة التي تخلقها الوظيفة التواصلية للفضاء بين المسرح والسحر تصبح أحيانا لاغية، خصوصا إذا استحضرنا أوجه التشابه بين الغرفة المحكمة الإغلاق التي يفضلها السحرة لممارسة عملهم، وبين القاعة الإيطالية حيث يصبح عالم الخشبة - بجداره الرابع واختفائه عن الأنظار، وخضوعه لطقوس خاصة في الإنكشاف توحي كلها بالرعب والرهبة كالدقات الثلاث وإطفاء الأنوار وإزاحة الستار الأسود الثخن وخروج الممثلين من منافذ مختلفة كالأشباح - عالما شبيها بغرفة السحرة. وهذا الفضاء له علاقة وطيدة بالسحر الأرسطي لأنه يساعد على خلق الاندماج وتحويل المتفرجين إلى مسحورين.

2 - 2 - شعرية الطقس المسرحي أو السحر العجيب:

يشير كامو في كتابه «قدرات سحرية Pouvoirs sorciers» إلى أن السحرة يشتغلون بطريقتين أساسيتين، تتمثل الأولى في الاتصال المباشر باستعمال اللمس، أي لمس الضحية أو اعتماد وسيلة خاصة لذلك هي الشحنات، وتتمثل الثانية في الاتصال الاستعاري الذي يعتمد فيه الساحر على قوة الفكر وعلى استعمال أشياء تمثل الضحية سواء كانت صورة أو باروكة أو غيرها. هذا الإجراء الاستعاري يعتمده الساحر ومزيل السحر على حد سواء. فلكي يتمكن هذا الأخير، مثلا، من اكتشاف قوى الشر وتحديد الشخص المعتدي وإزالة الأثر السيء وإعادة الحيوية للضحية، عليه - كما يرى لوي فانسان توماس Louis Vincent-Thomas - أن يستعمل العلاقة الاستعارية وأن يوظف نسقا رمزيا مكونا من الأرقام والألوان ويستفيد من الوظيفة التطهيرية لبعض العناصر الأساسية كالماء والملح والتراب والطباشير، والوظيفة التدميرية لعنصر النار. فالسحر، إذن، «يستعمل الرموز بشكل كبير، والرمز باعتباره تداعي أفكار قائم على مفهوم التجاور، يخلق علاقة مع ما يمثله» (3-144).

إن السحر بهذا الاشتغال الإستعاري والرمزي يؤسس شعرية خاصة يمكن تسميتها بشعرية العجيب. ونعتقد أن المسرح يشتغل هو أيضا انطلاقا من نفس الشعرية العجيبة خصوصا وأنه يستعمل الطريقة الحسية المباشرة بالإضافة إلى الطريقة الإستعارية الرمزية. فمفهوم «التواصل المسرحي» بما يحمله من دلالات مختلفة كالتاثير أو التحفيز أو المشاركة أو الإدماج أو التفاعل، حسب تعدد المنظورات السيكولوجية والجمالية لهذا المفهوم، يوحي بهذه العلاقة المباشرة. إلا أن هذا التواصل لا يتأسس على الفراغ وإنما ينبني على أنساق تعبيرية تشتغل استعاريا ورمزيا. فلكي يجسد يونيسكو، مثلا، مسألة العدم وغياب التواصل في العالم المعاصر استعمل وسيلة تتمثل في الكراسي الفارغة في مسرحيته «الكراسي»، ولكي يبلغ بيكيت فكرة عبثية الوجود الإنساني استعار مسألة الانتظار، انتظار غودو - الرمز الذي يأتي ولا يأتي.

2 - 3 - التمثيـل المسرحـي تمثيـل سحـري:

إذا كان الطقس المسرحي يشترط وجود فضاء وزمن محددين، ويقوم على أساس شعرية عجيبة تستعمل الاستعارة والرمز، فإنه يفترض، في الأصل، تصورا خاصا لمفهوم التمثيل «Représentation»، أي تمثيل العالم والإنسان. إن تأمل العلاقة بين المسرح والسحر من هذه الزاوية التمثيلية يكشف أن أوجه التشابه بينهما تتجاوز التمظهرات الخارجية والوسائل التعبيرية لتبلغ العمق، أي الخلفية النظرية أو التصور الذي يكونانه عن العالم والإنسان وينطلقان منه لبناء عوالمهما.

يقوم تصور السحر للعالم على عنصرين أساسيين:

- العالم المرئي والمعروف لدينا ليس سوى جزء من محيط غير مرئي أكثر شمولية، وهذا المحيط تحكمه قوى بإمكانها أن تؤثر وتفعل في مصير الأشياء والناس والحيوان. وتسمية هذه القوى تشكل تمثيلا لها ولقدراتها، كأن تسمى أرواح الموتى أو الشياطين أو غير ذلك.

- العناصر المكونة للعالم توجد فيما بينها علاقة من الأصغر إلى الأكبر،وكل تأثير على أحدها قابل لأن يمر إلى الآخر. من هنا، فإذا استهدف شخص ما من قبل ساحر، فإن السحر يبدو عليه وعلى ممتلكاته وعلى الأشياء التي لها صلة به. وهذا «التمثيل للعالم يكتمل، طبعا، بتمثيل خاص للإنسان (...) فالكائن الإنساني مركب من ثلاثة أجزاء:

- الجسـد: المادي الذي يتفسخ بعد الموت.

- الروح: اللامادية، مصدر الفكر.

- وسيط تشكيلي: «الجسد النجمي» (...) الذي يضمن الاتصال بين الروح والجسد، يربط بين الأعضاء والأفكار من أجل خلق هذه الآلة المفكرة التي هي الإنسان» (3-43/44). إذا كان تصور الساحر للعالم والإنسان ينطلق من هذه الخلفية التمثيلية، فما علاقة هذا التصور بالتمثيل المسرحي؟

يقوم مفهوم التمثيل في المسرح على أساس اعتبار الخشبة كونا صغيرا «Microcosme» يجسد ويعكس صورة العالم الأكبر «Macrocosme» بكل مظاهره الظاهرة والخفية، وبكل الأفعال الإنسانية المتفاعلة فيه سواء كانت نبيلة أو منحطة. إلا أن الكيفية التي يتم بها هذا التمثيل المسرحي للعالم تخضع لمبادىء أساسية أبرزها مبدأ الاحتمال والضرورة الذي يتحدث عنه أرسطو، هذا المبدأ الذي يساعد على خلق المسافة اللازمة بين الواقع والفن بحيث يسمح لهذا الأخير بتشغيل آليات جمالية وتنظيم كونه الخاص وفق منظورات متميزة.

ولعل هذا ما يجعلنا نتحدث عن جمالية للتمثيل المسرحي، هذه الجمالية التي تستحضر بعض مظاهر التمثيل السحري من خلال تأكيدها على وجود ظاهر وباطن أو مرئي وغير مرئي في الواقع الممثل، وكذا، من خلال التركيز على أثر التمثيل في المتفرج وهو الأثر الذي يشتغل بنفس المبادىء السحرية، كمبدأ العدوى، مثلا، الذي نجده مجسدا في ردود فعل الجمهور المسرحي كالتصفيق أو الصفير أثناء مشاهدة فرجة ما، وكذا مبدأ التجاور المتمثل في العلاقة القائمة بين مكونات الجمهور سيكولوجيا وسوسيولوجيا والتي تجعل التأثير على جزء منه يمر، بالضرورة، نحو الأجزاء الأخرى كما هو الشأن في السحر.

ويفترض هذا البعد السيكولوجي للتمثيل المسرحي تصورا خاصا للإنسان يتقاطع مع التصور السحري. فالإنسان، في المسرح، جسد وروح. وهذه الروح تتضمن الفكر والشعور في آن واحد. ويمكن الانطلاق من علاقة التمثيل المسرحي بالمظاهر الجسدية والروحية للإنسان لرسم مسار المسرح ومختلف توجهاته عبر التاريخ، خصوصا وأننا نجد أن بعض المسارح تركز إما على جسد الإنسان أو شعوره أو عقله، ولنتذكر فقط الفرق بين المسرح الأرسطي والمسرح البريشتي من هذه الزاوية التمثيلية.

إلا أن ما يميز التمثيل المسرحي عن التمثيل السحري هو اعتقاد هذا الأخير في وجود ما يسمى بالجسد النجمي «Corps astral». صحيح أن المسرح يؤمن بالتفاعل بين الجسد والروح الإنسانيين بحيث يصبح التلقي الحسي السمعي - البصري مطية لتفاعل أعمق على مستوى الانفعالات والأفكار، لكن هذا لا يعني وجود جسد آخر له صلة بالنجوم. فالمسرح كفن يقوم على اللقاء الحي المباشر والآني يترجم التفاعل بين الجسد والروح بشكل ملموس يسهل معه التحكم في توجيه أفكار الناس وعواطفهم دونما حاجة إلى تسخير قوى غير مرئية أو استقراء النجوم والكواكب.

3 - المسـرح سحـر - شفـوي مكتـوب:

سبقت الإشارة إلى أن الفعل السحري يتحقق إما بطريقة مباشرة أو بطريقة استعارية رمزية. هاتان الطريقتان تتطلبان وسائل مختلفة، لهذا يلجأ السحر إلى الكلمة والحركة وكذا إلى الكتابة. ولغز الساحر يكمن في استعماله الخاص لهذه الوسائل. فسحره الشفوي يقوم على ترديد بعض الصيغ السحرية والتعازيم والأبجديات السرية والأدعية، بالإضافة إلى بعض الحركات الخفية. علاوة على هذا، يلجأ الساحر إلى الكتابة أيضا، حيث يلاحظ أن «استعمال الأبجدية السحرية التي لا يفهمها المدنس، وللحبر السري الذي لا تراه العين، يعكس جيدا أهمية الكتابة ومكانتها في التمثيلات الرمزية للسحر» (3-150).

إن السحر يتطابق، إذن، من هذه الزاوية مع المسرح، خصوصا وأن هذا الفن يعتمد أيضا الكلمة الشفوية والمكتوبة كما يعتمد الحركة. إلا أن هناك خصوصية مميزة لطبيعة اشتغال هذه الأدوات التعبيرية في المسرح عنها في السحر.

3 - 1 - حبـر الكتابـة المسرحيــة:

قد تسبق الكتابة الفعل في المسرح، وهذا هو الغالب، لكنها أحيانا قد تأتي بعده. فتاريخ المسرح يؤكد أن أغلب الفرجات انبثقت من نصوص مسرحية مكتوبة. إلا أن هذا لا يمنع وجود نصوص خرجت من رحم العروض المسرحية خصوصا في بعض التجارب التي تقوم على الارتجال. والكتابة المسرحية لا تستعمل الحبر السري «Encre sympathique» كما هو الشأن في السحر. فما يكتب في المسرح يقرأ ويسمع ويشاهد، لأن الكتابة وسيلة لتبليغ موقف ورؤيـة. إنها كتابة متعديـة وليست كتابـة لازمـة كما هو الشأن في السحـر حيث تحمـل قيمتهـا في ذاتهـا وتكتسـي «بعـدا رمزيا يساهم في تمثيـل قـدرة الساحـر» (3 - 53). إن الكتابة السحرية فعل وليست كلاما وحسب، فعل سحري متميز يقوم على أبجدية خاصة حبرها السري يضفي طابع الغموض والاختفاء مما يجعلها مستعصية على التفكيك. هذه الكتابة لا تواصلية عكس الكتابة المسرحية التي يشكل البعد التواصلي خلفيتها الأساسية. هذا التواصل يجعل أبجديتها مقروءة ومتداولة وحبرها واضحا علنيا؛ ومظاهر الغموض والخفاء ليست مرتبطة بالحبر كأداة وإنما هي مرتبطة بشيء آخر هو المحتويات والمعاني والدلالات التي يجسدها هذا الحبر.

3 - 2 - الكلام المسـرحي: المسـنن والمرتجـل:

للكلام في المسرح كما في السحر خاصية متجانسة من الناحية التداولية. فالكلمة فيهما معا فعل. بالنسبة للسحر تتجلى تداولية اللغة السحرية في كونها «تستهدف تحرير القوى عن طريق طاقة قوة الملفوظ الذي يترجم إرادة الساحر. الكلام السحري أمر فعال. الفعل، في السحر، هو الكلمة التي تخلق الشيء الذي تسميه» (3-148). أما بالنسبة للمسرح، فإلقاء الممثل لكلمة على الخشبة يعد في حد ذاته فعلا خاصا. إن هذه الخاصية التداولية التي تجعل الكلمة فعلا سواء في السحر أو في المسرح هي التي تفسر الوضع الخطير لكل من الساحر والمسرحي داخل المجتمع. هذا الوضع الذي يثير ضدهما ردود أفعال قوية وعنيفة قد تصل حد الإحراق بالنسبة للساحر أو الاحتجاز أو الإقصاء بالنسبة للمسرحي.

إن الساحر يردد، أثناء ممارسة طقسه كلمات، وهذه «الكلمات التي يتلفظ بها السحرة ذات طبيعتين: يمكنها أن تكون مسَنَّنَة، وتشكل صيغا حقيقية تقال لحظة اكتساب الهبة، أو تكون مرتجلة كليا وفق تفكير الساحر الذي يتحدث تبعا للهدف المنشود» (3-149).

هذا الطابع المزدوج للكلام، المسنَّن منه والمرتجل، نجده بشكل واضح في المسرح. لكن التسنين لا يتعلق، في المسرح، بصيغ أو جمل محددة كما في السحر، بقدر ما يتعلق بعناصر أخرى تهم وظيفة هذا الكلام. فالبرولوج، مثلا، كلام تقديمي يبدأ به النص المسرحي ولابد منه لوضع المتفرج في سياق الأحداث التي ستجري في المسرحية. أما الارتجال، فإذا كان موجها، في السحر، حسب تفكير الساحر وحسب هدفه من الفعل السحري، فإنه في المسرح يتخذ دلالات متعددة نستشفها من خلال التعريف الذي يقدمه ميشال برنار قائلا: «إن الارتجال هنا، حسب التعريف، وطبقا للمعنى الاشتقاقي يعني التركيب والإنجاز أو القيام اللحظي والآني بشيء لامتوقع وغير جاهز على اعتبار أن هذا الغياب للإعداد يستطيع، بطبيعة الحال، أن يكون نفسه جاهزا ومتعمدا، كما أن هامش التنوع المحتمل يمكنه ويلزمه هو كذلك - كما سنوضح فيما بعد - أن يكون مبرمجا نسبيا ضمن تخطيط في منتهى الدقة تقريبا كما نلمس ذلك في الكوميديا المرتجلة. بيد أن البحث عن هذا اللامتوقع يكتسي على الأقل ثلاثة معاني مرتبطة فيما بينها:

1 - إما القيام بشيء لم يشاهد بعد، أي لم يدرك بطريقة أو بأخرى، وبالتالي إنتاج الجديد أو المخالف للمألوف، والقيام بالخلق بمعناه الحقيقي.

2 - أو/وإلا إنجاز حدث غير متصور أو متعقل، وبتعبير آخر حديث يشكل قطيعة مع كل معرفة منطقية.

3 - أو/وإلا إنجاز حدث لا إرادي غير مقصود، والخضوع لاندفاع واحد لا غير. وبعبارة أخرى، فإن الارتجال بإمكانه أن يرتكز في جوهره على إبداعية تستمد فرضيتها من تلقائية حدسية أو خيالية» (9-24/25).

إن الارتجال المسرحي عملية موجهَة ومخطَّط لها قبليا، وليست عملا فوضويا رغم اعتمادها على اللامتوقع والآني. وهذا الطابع اللامتوقع للارتجال يفتح آفاقا قابلة للخلق وإنتاج الجديد وخلق القطائع وتحرير المتخيل. إلا أن هذا الخلق والتخيل لا يخص المسرح فقط، بل نجده في السحر كذلك، خصوصا وأن الساحر يستند أثناء ممارسة طقسه، على هذه الطاقة التخييلية لخلق ما يناسب الفعل السحري وما يخدم الهدف المنشود. فرغبة منه - مثلا - في تثبيت اندماج زبونه وتقوية اعتقاده في عمل الساحر، يلجأ هذا الأخير إلى خلق صيغ جديدة وحركات إضافية تعمق خوف الزبون وتعمق اعتقاده في السحر مع العلم أن الاعتقاد يشكل خلفية أساسية لابد منها لإنجاز الطقس السحري.

3 - 3 - الحركـة المسرحيـة: التمثيليـة والتعبيريـة:

لا يمكن تصور طقس سحري دون حركة ظاهرة أو خفية، خصوصا وأن الحركة تقوم بربط فعل الساحر بتمثيله الرمزي. وقد تبقى الحركة السحرية في حدود ما ينتجه جسد الساحر أثناء ممارسة طقسه، وقد تتعدى ذلك إلى الاستعانة ببعض العناصر المساعدة، أو الأكسسوارات. ويمكن الإشارة إلى أبرزها هنا، هو «العصا السحرية»، هذه الأخيرة التي «تصلح في السحر أساسا للكشف عن عناصر الشر، ينبغي أن تؤخذ بثبات في اليدين، مع رفع الأكف في الهواء، وطي المرفقين بحيث يشكلان مع الجسد، في اتجاه الأكتاف العليا، زاوية مستقيمة. فمبدأها الأساس بسيط جدا وهو أن المحرك ينبغي أن يبئر إرادته على هدف يريد بلوغه ثم يكتسب تمثيلا له يسجل في ذهنه. عند الاقتراب من هذا التمثيل، تهتز العصا وتُخْرجُ، بالتالي، الضرر والتوتـر الذي يسكـن ذهـن المصــاب» (3-106). إن العصا السحرية ليست أكسسوارا عاديا لأن تحريكه يتطلب حركة مضبوطة مُسَنَّنَة وقدرا كبيرا من التركيز الذهني الذي يساعد على كشف مواطن الشر. هذا الطابع المزدوج للحركة السحرية، التعبيري والتمثيلي، هو ما يميز الحركة في المسرح أيضا سواء كانت منبثقة من جسد الممثل وأعضائه البارزة كالوجه واليدين وغيرهما أو مستندة على عناصر مكملة هي ما يسمى بالأكسسوارات. فبخصوص البعد التعبيري في الحركة المسرحية، فقد ارتبط بالتصـور الكلاسيكـي الـذي «جعـل مـن الحـركة وسيلـة للتعبيـر وإخـراج محتـوى نفسـي داخلـي (عاطفـة، رد فعل، دلالة) على الجسد إبلاغـه إلـى الآخـر.» (2-181). في مقابل هذا التصور التعبيري هناك تصور آخر ينظر إلى الحركة، في المسرح، باعتبارها إنتاجا وينظر إلى «حركة الممثل (على الأقل في شكل تجريبي للعب والارتجال) باعتبارها منتجة للعلامات وليس باعتبارها مجرد إبلاغ لأحاسيس معبر عنها حركيا.» (2-181).

وتقترن الحركة في المسرح، كما هو معلوم، بفن قائم الذات يسمى بالميم «Mime» أو فن الحركة الجسدية بشكل عام، وضمنه يندرج فن خاص بالتعبير عن طريق الوجه يسمى بالإيماء «Mimique». والاستعمالات الحالية للمصطلح المسرحي تميز، كذلك، بين الميم والبانطوميم «Pantomime». فالميم «يميز باعتباره خالقا أصليا ومُلهما في حين أن البانطونيم هو محاكاة حكاية شفوية يحكيها بواسطة «حركات للتفسير». فالميم يتجه نحو الرقص، أي نحو التعبير الجسدي المتحرر من أي محتوى تشخيصي. والبانطوميم ينزع نحو القياس عن طريق محاكاة أنماط أو وضعيات اجتماعية (...) التقابل بين الميم والبانطونيم ينبني على مسألة أسْلَبَة وتجريد. فالميم يتجه نحو الشعر، يوسع وسائل تعبيره، يقترح إيحاءات حركية يؤولها كل متفرج بحرية. ويعرض البانطونيم سلسلة من الحركات تستهدف غالبا التسلية وتحل محل سلسلة من الجمل. إنه يعبر بشكل أمين عن معنى الحكاية المعروضة.» (2-240).

وإذا كان المسرح يستعمل بعض الأكسسوارات كأداة تساعد على إنجاز حركات معينة، فإن الطابع العجائبي الذي تتميز به العصا السحرية باعتبارها أكسسوارا سحريا نجده في المسرح أيضا، حيث تتميز بعض الأكسسوارات بالتحول إلى أداة - استعارة أو إلى شخصية أو غير ذلك. إلا أن هذا التحول لا يقترن بذلك التركيز النفسي أو الحركة المسننة كما هو الشأن في السحر، بل يقترن بالمنظور الجمالي للمخرج خصوصا وأن التعامل مع الأكسسوار الذي يتحكم فيه مفهوم المحاكاة الدقيقة لأشياء الواقع يختلف عن التصور العبثي «Absurde» الذي يتأسس على مفهوم المسخ والتحول، وهو المفهوم الذي نراه أقرب إلى التصور السحري.

4 - تركيـــــب

إن ما استعرضناه من أوجه التشابه والتقاطع بين المسرح والسحر من حيث الطقوس المنجزة والفاعلون فيها والأدوات المستعملة فيها، لا يدع مجالا للشك بأن الفرضية التي انطلقنا منها لها ما يبررها من عدة أوجه. لذا، لن نتردد في القول إن المسرح سحر حداثي، والسحر مسرح تقليدي. وهذا التداخل الذي أصبحت معه هوية كل واحد منهما مرتبطة بالآخر، ينبغي أن يؤكد قناعتنا بهذه القدرة الخارقة التي يتميز بها فن المسرح والتي تجعله قابلا لاحتواء مختلف الظواهر الإنسانية الظاهر منها والخفي
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://chicavara.yoo7.com
 
المسـرح والسحـر
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» المسـرح والتلقـــي

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتدى التجديد :: منتدى الفن والسينما :: عالم المسرح-
انتقل الى: